المحطة الأخــيرة..نهاية بقل الديس

> علي سالم اليزيدي:

>
علي سالم اليزيدي
علي سالم اليزيدي
كل شيء يأكله الزمن ويعصره عصراً ثم يمحوه أو يقضي عليه، ويحتفظ التاريخ بذكريات تتوارى رويداً رويداً. كنا نعرف الديس في المكلا بمزارعه والخضرة التي تميزه، أشجار البيدان والحومر والباباي والنخيل والخضار، كل شيء كان يزرع في الديس وكان الماء صافياً زلالا، أما أفضل ما ميز الديس فهو البقل فقد عرف أن بقل الديس طيب ومذاقه رائع وأوراقه لينة، ويرافقه الضحضح والشبرم، ومن المزارع في البقرين وتحت النقع وعند المتنزه ومزرعة بامخرمة وكذلك مزارع المنورة والغليلة السوداء من شدة الاخضرار، كان هذا هو الديس الأخضر طرف المكلا وحديقتها الواسعة الطبيعية، يذهب الناس للتنزه وقضاء العطل والتمتع بحدائق ومزارع بها العصافير والحمام والهدهد، ويقطفون الثمار ويلعب الصفار ، متعة الناس في الديس، لم نكن نذهب إلى البحر، وجهتنا الديس حتى يتنفس المكلاويون بل وذكر لي أهلنا القدامى أنهم يقضون أياماً في زمن الخريف والتمر في الديس الأنيس وحديقة عاشت ردحاً من الزمن ثم اغتالها الزمن نفسه.

وديس المكلا شهد نهضة متمدنة، فعلى الروابي المحيطة به نشأت مدارس أبناء البادية في بداية الخمسينات من القرن الماضي، ودخل عالم تعليم الفتاة التاريخ عندما اعتنت السيدة داروين انجرامس زوجة المستشار البريطاني بالمكلا آنذاك بفتيات البادية واليتيمات، ولم يمض زمن حتى برزت المدرسة والصيدلانية وقدمت هؤلاء الفتيات منذ تخرجهن إلى التقاعد خدمات في مجالات وأنشطة حياتية، ثم أحاطت بالديس معسكرات الجيش البدوي الحضرمي وجيش النظام ومدارس القرية ومثلت هذه التجمعات كثافة سكانية وتجارية وتسوق ونشأت البيوت والمقاهي والمتاجر ودخلت الديس حياة أخرى، وفيها سكن الإيطاليون وأقاموا ورشاً وأعمالاً إلى بداية الستينات وبقي منهم بعدئذ (لوبي) ثم أسلم ودعي عبدالله ناصر ولازالت عائلته وأولاده بالشرج، وفي الديس أيضاً أقام المستر (جراي)، قائد الجيش البدوي وهو بريطاني، قصراً على الجبل فوق الديس جعله مقرا له، وفي البقرين وعلى روبة الديس التي نطلق عليها اليوم (المليشيا) سكن المساعدون الإنجليز حينما كان الديس هادئاً ويشبه المنتجع، وجول الديس اشتهر بالغناء وقيل له جول البترول، حيث ذكره الشاعر الراحل صالح المفلحي «يالتلك المناظر فوق جول الديس ملقات عاكر/ ريتنا أضوي معاهن حيث يضوين» ويقصد الصبايا ومشيتهن وآثار الغبار خلفهن وأسرابهن فوق جول الديس، حيث المناظر والمزارع والخضرة والجمال والسحر. وفي الديس ظهرت مدرسة الوحدات الابتدائية التي تخرج فيها رجال سياسة ومجتمع بعدئذ، وفيه ظهرت ملاعب كرة القدم الأولى لما به من ساحات وسعة ضاقت وانتزعت وتبخرت، وكانوا في الديس يلعبون لعبة (الروندس)، وهي لعبة تشبه لعبة المضرب والجري حول الدائرة في أمريكا وايضاً الجولف والتنس الأرضي.

كان الديس أنيقاً حقاً، ملامح المدينة وبساتين وملاعب، ومن أشهر سكانه القدامى آل باشادي وآل بامؤمن ومنهم اللاعب الشهير شيبوب في السبعينات ويعتبر المقدم وشيخ البلدة حينها الشيبة ناصر بن قبوس صاحب أياد خيرة ووسيطاً في المنازعات في المكلا وجليس حكام رحمه الله، وقال الشاعر «لقد ذهب الذين أحبهم وبقيت كالسيف.. الخ». سحق الزمن بقساوته مزارع الديس ووصلنا بعدها إلى نهاية بقل الديس الذي أحببناه يوماً ما.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى