يافع ..المياه..والصرف الصحي ورجال ينحتون في الصخر

> «الأيام» علي صالح محمد:

>
اثناء عملية بناء المدرجات
اثناء عملية بناء المدرجات
مشروع المياه..بوصول ماء الشرب الصحي إلى أجزاء من هضبة يافع( لبعوس- المفلحي) الواقعة على ارتفاع مابين 2200- 2500 متر عن سطح البحر يكون قد تحقق حلم كبير ظل يراود سكان المنطقة لزمن طويل لينزاح عن كاهلهم واحد من أهم هموم الحياة القاسية والذي شكل لزمن طويل مع غيره من العوامل عوامل طرد أساسية للسكان لتصبح الهجرة أهم ما يميز سلوكهم منذ القدم وحتى اليوم لتأمين المعيشة والبحث عن ظروف حياتية أفضل .

ومشروع الماء الذي يخدم ما لا يقل عن 150.000 نسمة تقريبا سعى إليه السكان بقوة وعملوا بإصرار من أجل انجازه منذ العام 1970 حد استقطاع مبلغ محدد من راتب جميع الموظفين في الجهاز الحكومي المنتمين للمنطقة ولسنوات عديدة. وبإنجاز هذا المشروع الكبير من قبل الدولة مع غيره من المشاريع الخدمية الأساسية الثلاثة في العقود المنصرمة كشق الطرقات وتعبيدها ودخول الكهرباء وشبكة الهاتف الأرضي وخدمات الهاتف المتحرك وانتشار المدارس والمستشفيات الصحية تكون المنطقة قد دخلت مرحلة جديدة من مراحل الحياة المدنية المستقرة، وهو ما يفسر ظاهرة انتشار البناء والعمران الذي تضاعف كثيرا عما كان عليه الحال في عام 1984 وهو العام الذي وضعت على أساسه الدراسة الخاصة بمشروع المياه من قبل إحدى الشركات الاستشارية البريطانية وجرى تنفيذه لاحقا على ثلاث مراحل من قبل شركة سي سي سي العالمية منذ عام 1988 وحتى عام 2001 ليدشن الافتتاح في عام 2002 من قبل دولة رئيس الوزراء عبد القادر باجمال وبتكلفة إجمالية تقدر ب70 مليون دولار بتمويل قروض عربية وأجنبية، وهذا المشروع يعد من أكبر مشار يع المياه الريفية في الشرق الأوسط وذلك لاعتماده تقنية عالية حيث يتم تجميع المياه السائلة بوادي بناء في 6 مجمعات أرضية كبيرة على عمق ما بين 10-15 مترا بواسطة الترشيح، ليضخ الماء المتجمع منها إلى ثلاثة خزانات أرضية أخرى ومنها إلى خزان أرضي سطحي ومنه يتم ضخها إلى خزانات واقعة على ارتفاع كيلومترين ومنها يتم تصريف المياه إلى المناطق بواسطة شبكة أرضية تصل إلى نقاط ومساكب عامة في القرى ليتم توزيع المياه على الناس حسب حاجتهم بواسطة متعهد يشرف على التوزيع وتحصيل الإيرادات .

ويتضح من ذلك أن المشروع رغم ضخامته لم يعتمد نظام التوصيل المنزلي كشرط فرضه الممول حينها لعدم وجود نظام للصرف الصحي في المنطقة .

وحسب مدير عام يافع لبعوس العميد حسين قحطان والأخ سامي العياشي الأمين العام للمجلس المحلي فإن المشروع يعاني حاليا صعوبات في تزويد المنطقة بالماء الكافي فمن استهلاك 400 بوزة يوميا في مواسم الأمطار ينخفض التموين ليصل إلى أربعين بوزة يوميا ويعود ذلك إلى الاستهلاك الكبير للمياه بسبب الزيادة السكانية والتوسع العمراني وهو الأمر الذي لم يؤخذ بالحسبان عند تنفيذ المشروع الذي اعتمد على دراسة 1984 ، الأمر الذي دفع بهؤلاء المسؤولين النشطين إلى البحث مع جهات الاختصاص عن حلول بديلة منها إقامة سد أرضي في موقع الآبار لحفظ المياه المتسربة وكذا بناء حاجز مائي لتغذية الآبار بالمياه أثناء انقطاع الأمطار بهدف الحفاظ على مستوى الاستهلاك من المياه على مدار العام.

صورة للاحواض الثلاثة حسب التصميم
صورة للاحواض الثلاثة حسب التصميم
ومع أن الممول الخارجي حينها حرص على أن لا يكون المشروع ذا توصيل منزلي لاستحالة وجود أو بناء شبكة صرف صحي تقليدية لما سيفرضه ذلك من تكاليف مالية هائلة تفوق تكاليف إيصال المياه بسبب تضاريس المنطقة من حيث وعورتها وتنوعها إضافة إلى وجود الوديان المحيطة المأهولة بالسكان والشهيرة بزراعة البن ، بالرغم من ذلك فإن هذا الحرص لم يحد من الاندفاع الاستهلاكي الكبير للماء كتعبير عن حالة تعطش السكان إليه مع ما يفرضه ذلك من عادات جديدة ولعل أهمها على سبيل المثال توجه السكان لبناء الحمامات والمراحيض في منازلهم وهي التي إلى عهد قريب لم تكن تعرف الحمامات بسبب شحة وندرة المياه ، ليس هذا وحسب بل ان عملية البناء الحالية تشمل بناء حمام في كل غرفة، مع بناء خزانات أرضية لخزن المياه لتكفي السكان لعدة أعوام ، وهذا ما شاهدته والصديق فضل النقيب حين حللنا ضيوفا قبل عام على قريبه محمد حسين بداره الجميلة الحديثة في قرية (دير) والمشيدة على ربوة مرتفعة تطل على الوديان الجميلة المحيطة بها، و المكونة من عدة أدوار و تشمل 13 غرفة وفي كل غرفة يوجد حمام مجهز على أحدث طراز فندقي، مع وجود أكثر من خزان مياه تكفي لثلاثة أعوام . وهذا التوجه العام لدى الناس إنما يعكس موقفهم من هذا المستجد وكأنهم بذلك يعوضون ذلك الحرمان الذي اتصفت به حياتهم السابقة ، ومن ناحية أخرى يعكس مستوى عاداتهم وثقافتهم في التعامل مع الغد الآتي وحرصهم على التزود بالمؤن اللازمة كسلوك يتصف به سكان الجبال ويميزهم عن سكان المناطق الساحلية والسهلية حسب تفسير ابن خلدون في مقدمته الشهيرة.

الصرف الصحي
وإذا كان وصول الماء يعتبر حدثا غير عادي في حياة الناس في هذه الهضبة بعد أن اقترنت ولقرون من الزمن مع الظمأ ليتميز ناسها باعتبارهم أقل سكان العالم في حصة الحصول على المياه النقية الأمر الذي جعلهم في حالة تحد غريبة ونادرة لتيار الوجود الإنساني الباحث عن الاستقرار حيث يوجد الماء كأهم عامل لاستمرار الحياة ، فإن ظاهرة الصرف الصحي تكون الحدث الأكثر غرابة في حياتهم إذ تفرض نمطا جديدا من العادات وطرق التعامل، ولا بد من دفع الثمن كضريبة للتعامل الجديد كما هو الحال مع كل تقنية جديدة دخلت المنطقة كالسيارة والكهرباء ومضخات شفط المياه مثلا التي كان لها ضحاياها من البشر بسبب الجهل في التعامل. ولأن لكل تقنية مخاطرها كما يقال فإن للصرف الصحي في المنطقة في ظل غياب التوعية والإشراف أيضا ضحاياه والمؤسف أن الضحايا الذين سقطوا قتلى حتى الآن كان سقوطهم بسبب الاختلاف على مواقع البيارات ومواقع الأنابيب ، أما الضحايا الحقيقيون لسوء الصرف الصحي وما يحمله من أخطار صحية عامة فهم في الطريق كما يبدو، إذ لا يدرك السكان بعد بسبب من شدة فرحهم بالماء ومن شدة جهلهم بتصريف هذه المياه المخاطر الناتجة عن سوء تصريف المياه في ظل استحالة وجود شبكه صرف صحي سليمة وبالتالي لجوؤهم إلى دفن المخلفات في بيارات أرضية أو ترك المخلفات تنساب في العراء، وهم بذلك لا يدركون حجم المخاطر الصحية والبيئية الكبيرة ولعل أهمها انتشار أمراض خطيرة للإنسان كانتشار وباء السالمو نيلا والالتهاب الكبدي والبلهارسيا والدوسنتاريا والكوليرا والتيفوئيد والملاريا لان مياه الصرف الصحي تحتوي على الكائنات الدقيقة كالبكتيريا والفيروسات والطفيليات والحمأة المسببة لهذه الأمراض والتي تنتشر في الهواء، وللتقليل من المخاطر تتجه أغلب بلدان العالم لمعالجة الصرف الصحي بطرق علمية تقليدية وحديثة تهدف إلى :

- تقليل الملوثات التي ربما وجدت طريقها لمصدر المياه السطحية أو الجوفية .

والحد من انتشار الأمراض المعدية بإزالة أو قتل الجراثيم والبكتيريا الموجودة في الفضلات السائلة والحمأة .ولهذا الغرض يتم إنشاء محطات المعالجة الأولية والثنائية والثلاثية للحصول على مخرجات مياه نظيفة صالحة للاستخدام .

وفي منطقة يافع وبحكم تنوع وتعقيد تضاريسها الجغرافية وغير الملائمة لقيام شبكة صرف صحي تقليدية وبالتالي إنشاء محطات معالجة مركزيه تؤدي الغرض منها، فإن الحل الأمثل هنا يكمن في اتباع نظام المعالجة المزدوجة التي تشمل طريقة المعالجة الأولية والثنائية اللتين تهدفان إلى :

- فصل الدهون والمواد الكيمائية التي تحتويها مواد التنظيف المختلفة وفصل المواد العالقة والصلبة .

-وعملية فصل بيولوجية للبكتيريا التي تؤكسد المياه العضوية من خلال عمليتي الترشيح والترسيب .

- الاستفادة من المياه الناتجة عن المعالجة في المزروعات وبالذات المثمرة منها كالبن والفواكه والقات .

- كما انه للحصول على مياه أكثر نقاوة فيمكن اتباع عدد من الطرق العلمية الإضافية للتخلص من الفيروسات والبكتيريا المضرة كتمرير الماء الناتج بمادة الكربون أو ما يسمى بالفحم الفعال أو تمريره بالمرشحات الرملية إضافة إلى المعالجات الكيميائية اللازمة .

وبعدها يمكن الاستفادة من ناتج المياه المعالجة بإعادة استخدامها لتغذية مصادر المياه الجوفية بما في ذلك حقول الماء التي يضخ منها الماء إلى المنطقة .

وحين أقول إن هذه الطريقة هي الحل ألأمثل حاليا إنما لاعتبار ملاءمتها لتضاريس المنطقة و باعتبارها طريقة سهلة غير معقدة واقتصادية في بنائها و يمكن أن تخدم الاستخدام الفردي أو الجمعي.

الخزان بعد امتلائه
الخزان بعد امتلائه
و هذه الطريقة تقوم على فكرة إنشاء ثلاثة أحواض : الحوض الأول لفصل الدهون ومواد التنظيف ويسمي( فخ الدهون) والحوض الثاني لفصل المواد الصلبة والعالقة وإجراء المعالجة الكيميائية البيولوجية ويسمى ( حوض الترسيب) والحوض الثالث لخزن المياه أو لتبخيرها ويسمى ( بركة التبخير أو الخزن) كما هو مبين بالصورة أعلاه:

أما عملية بناء الأحواض فتخضع لحساب دقيق لعدد من المعطيات بهدف تحقيق العلاقة التالية:

T= V/ Q

حيث : T = زمن التهوية (يوم)

V= حجم حوض التهوية (م3)
Q= دفق مياه الصرف الصحي لحوض التهوية (كمية الاستهلاك اليومي) (م3/ يوم) أي إن حجم الحوض مرتبط بناؤه بكمية الاستهلاك اليومي للفرد أو المجموعة و بما يضمن فترة معالجة كافية في الحوض لا تقل عن ثلاثة أيام كحد أدنى.

ويفضل هنا أن يكون الحوض مغلقا مع وجود فتحات تهوية لتمرير الغازات الناتجة وأيضا لدخول الأكسجين اللازم لأكسدة المواد العضوية وتحللها وفتحات تنظيف لسحب الرواسب المتجمعة بعد سنوات من الاستخدام.

وللحد من البناء العشوائي لبيارات التصريف وللمخاطر الناتجة عنها وعن الصرف العشوائي في المنطقة ولحل مشاكل الصرف الصحي في مواقع التجمعات السكانية الكبيرة أرى :

- أن تقوم السلطة المحلية بتوجيه البلدية للاستفادة من طرق المعالجة المناسبة للمنطقة من خلال وضع و تعميم النماذج الملائمة على المواطنين مع إلزامهم بالتقيد بها .

- أن يتم العمل باتجاه وضع دراسة ميدانية من قبل مختصين بهدف إنشاء محطات المعالجة للتجمعات السكانية التي تزيد عن 150 فردا .

- أن يكون التمويل من خلال مساهمة الدولة والصناديق المانحة والمشاركة الشعبية .

- القيام بالتوعية الاعلامية اللازمة بأهمية الصرف الصحي السليم والملائم للمنطقة بهدف الحد من المخاطر البيئية والصحية وايضا الاستفادة القصوى من المياه الناتجة بعد المعالجة في أغراض تعود بالنفع على السكان .

تجربتي الشخصية
وتعميما للفائدة يسرني هنا أن أضع تجربتي الشخصية في هذا المجال في متناول كل من يرغب بالاستفادة منها من داخل المنطقة أو من خارجها ولعل هذه المقالة تلخص بإيجاز حصيلة هذه التجربة في معالجة الصرف الصحي في منزلي الكائن في قرية ظيئان الحضارم- يافع حيث بدأت ببناء الأحواض قبل ثلاثة أعوام وبسبب فائض المياه الناتجة اضطررت لبناء خزان إضافي أكبر لاستيعاب هذه المياه مع مياه الإمطار ، ومع أن فترة بقائي في المنطقة لا تتجاوز الثلاثة أشهر في العام أستطيع القول إنني وفرت ما يساوي 160مترا مكعبا من المياه الأمر الذي دفعني إلى بناء عدد من المدرجات الزراعية وتم زراعتها بحوالي 70 شجرة مثمرة بما في ذلك البن وجميع أنواع الفواكه الصالحة زراعتها في المنطقة ، ولمزيد من توفير المياه اعتمدت لريها نظام الري بالتقطير من خلال شبكة ري كاملة مستفيدا من المياه المعالجة ومياه الأمطار. وحين كنت قبل أيام هناك سعدت كثيرا حين وجدت جميع الأشجار تنمو بصورة جيدة و حين وجدت خزانات الماء مليئة بالمياه الكافية للري ، وكانت سعادتي أكبر حين وجدت عددا من المواطنين يتجهون لبناء أحواض المعالجة مستفيدين من التجربة بصورة طوعية تعكس الوعي الذي بدأ يتشكل وإن تدريجيا وهو الأمر الذي أرجو أن يعم كل أبناء المنطقة والمناطق الأخرى ليس فقط لدرء المخاطر الصحية والبيئية بل للاستفادة العقلانية من مخرجات المياه المعالجة وإعادة استخدامها للأغراض المفيدة و لما لكل قطرة ماء من أهمية كبيرة في هذه المناطق تحديداً.

النقاشة في يافع
النقاشة في يافع
وختاما أجدها مناسبة لتوجيه كلمات الشكر لصحيفة «الايام» الغراء بقيادة العزيزين هشام وتمام ، الصحيفة المقروءة والمنتشرة والتي تعمل بدأب للمساعدة والمشاركة في التوعية وتعميم الفائدة للكثير من المواضيع المرتبطة بحياة الناس .كما أشيد ايضا بأولئك البناة والنقاشين والعمال النشطين المثابرين المميزين والمنتشرين في يافع أولئك الذين ينحتون في الصخر ويصنعون الجمال ليزينوا الارض بتلك التحف المعمارية الفريدة وبتلك المدرجات الزراعية الشاهدة على قدرة الانسان في هذه المناطق على تحدي وتطويع الطبيعة بجدارة وتفوق مدهشين ، وتسخيرها لصالح حياتهم في اطار عملية تستحق التأمل والاعجاب لمثل هؤلاء المحبين للعمل صناع الحياة في أقسى الظروف، لتجعل منهم عملية العمل القاسية- كمدرسة حقيقية في واحدة من مشاهدها التربوية - رجالا أشداء ناجحين يعتد بهم ويعتمد عليهم خصوصا حين ينتشرون بعد هذا العناء والمعاناة في مشارق الارض ومغاربها بحثا عن عناوين لحياة معيشية أفضل ، ليصبحوا خريجين ناجحين تعلموا جيدا من مدرسة العمل الشاقة والحياة الشظفة، ولمثل هؤلاء وهم كثيرون أتوجه بالإشادة وهنا أخص بالذكر الأخوين ناجي وحسين محمد علي الحيدري اللذين ارتبطا بمودة وعشق مع الصخر والحجر، وعلي عبدالله صالح الحيدري والشباب الطلاب المثابرين صالح بوبك حسن وسالم محمد علي وعلي حسين أحمد وياسر محمد وعبدالله حسين بن عمر وعبدالخالق محمد ، وبقية الشباب من قرية ظيئان الذين اشتركوا في العمل، ولا أنسى هنا المهندس معين محمد الماس الذي أسهم في وضع التصاميم الهندسية والعملية المناسبة لهذا العمل المفيد، الذي أرجو أن يستفاد منه كحل مثالي مناسب لمنطقة يافع ولبقية المناطق ذات الطبيعة والتضاريس الجغرافية نفسها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى