رجال في الذاكرة

> «الأيام» نجيب محمد يابلي:

>
عبدالله محفوظ الحداد
عبدالله محفوظ الحداد
العلامة السيد عبدالله محفوظ الحداد..إضاءة مشرقة أسهمت في تنمية الوعي والمعرفة والإصلاح...تستيقظ الذاكرة على أصوات نابضة في آفاق الوجود كان لحضورها نكهة وبعد وإضافة وفي غيابها تتشكل أطياف ذلك الحضور الأثير.

قسمات وبصمات وشواهد تبقى في صفحات الوجدان وأنسجة الذاكرة تستدعي وتستقطب الحضور.

العلماء، الحكماء، المفكرون يغرسون شجرة الوفاء والعطاء فتظل يانعة يجني ثمارها الآخرون، ويشكل حضورهم في الحياة إضاءات مشرقة تسهم في تنمية الوعي والمعرفة والإصلاح والبناء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «العلماء ورثة الأنبياء».

وفي حضرة العلماء تتألق تجليات الحكمة والعلم والوفاء والوقار مسكونة بالنبل والإيثار والإتقان، متوزعة في حركة متجددة دائبة لخدمة العلم والتنمية والأخلاق والارتقاء باهتمامات الناس إلى ما يحقق مصالحهم ويرتقي بتوجهاتهم .. علم من أعلام الفقه والفتوى والقضاء نبغ في العلوم الشرعية وتفقه في الدين لدى نخبة من علماء الشريعة والفقهاء في عصره حتى تأهل وبرز فيها.. تولى رئاسة المجلس العالي للقضاء بحضرموت.. إنه العلامة الفذ فضيلة الشيخ (السيد عبدالله بن محفوظ الحداد) رحمه الله.

اسمه ومولده
هو الشيخ السيد العلامة أبو محمد عبدالله بن محفوظ بن محمد بن إبراهيم الحداد باعلوي الحسيني، ولد في بلدة الديس الشرقية بحضرموت سنة 1342هـ الموافق 1923م، تولى تربيته ورعايته وتعليمه أساسيات العلوم جده السيد محمد بن إبراهيم الحداد، نظراً لاغتراب والده، وظل في كنف جده حتى بلغ الرابعة عشرة من عمره.

بيئته
من المعروف أن الإنسان يتأثر بالبيئة التي نشأ فيها وبالأحداث الجارية حوله، وبكل ما يتصل بالعصر الذي يعيش فيه، كما أنه يؤثر فيه، لذلك لا بد أن نشير إلى بيئة العلامة الحداد في حياته بثلاث مراحل مهمة.

المرحلة الأولى
مرحلة الدولة القعيطية التي تعاقب على عرشها السلطان عمر بن عوض القعيطي (1340-1354هـ الموافق 1922-1935م) والسلطان صالح بن غالب (1354-1375هـ الموافق 1935-1956م) الذي دخلت حضرموت في عهده تحت التاج البريطاني بتوقيع معاهدة الاستشارة سنة 1937م والذي حصلت في عهده إصلاحات كثيرة منها توطيد الأمن، وبناء الجيش، وتحسين الإدارة والاهتمام بالتعليم والصحة وإصلاح القضاء وتنظيم المحاكم، والسلطان عوض بن صالح (1375-1386هـ الموافق 1956-1966م) والسلطان غالب بن عوض (1386-1387هـ الموافق 1966-17 سبتمبر 1967م).

المرحلة الثانية
مرحلة الاستقلال وقيام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وما أحدثته من تغيير جذري في الحياة العامة (30 نوفمبر 1967م-22 مايو 90م).

المرحلة الثالثة
مرحلة دولة الوحدة ومارافقها من تغيير في حياة الشعب اليمني قاطبة والأحداث التي مرت بها من الفترة الانتقالية إلى حرب صيف 1994م إلى حكومة ما بعد الحرب (22 مايو 1990م إلى وفاته 25 أكتوبر 1996م).

طلبه للعلم
طلب العلامة الحداد العلم أولاً في مسقط رأسه (الديس الشرقية) منذ نعومة أظفاره وتتلمذ على يد أساتذة أفاضل كالشيخ أحمد باصلعة، قاضي الديس آنذاك.

ثم انتقل إلى مدينة العلم والنور تريم الغناء، حيث التحق برباط تريم الذي كان يدرس فيه مجموعة من أفاضل العلماء، آنذاك وعلى رأسهم العلامة الكبير الحبيب عبدالله بن عمر الشاطري، وفيهم وجد العلامة (الحداد) ضالته المنشودة حيث اغترف من علمهم وخبراتهم ومعارفهم لمدة تزيد عن أربع سنوات.

عاد بعدها إلى مسقط رأسه بسبب وفاة جده بعد الحرب العالمية الثانية طلبا للقضاء فالتحق برباط الغيل في دورة تأهيلية بدرجة قاض شرعي.

بعد إكمال الدورة التأهيلية برباط غيل باوزير تم تعيينه قاضياً شرعياً في سنة 1946م، وبعد مرور أكثر من عشر سنوات بعث إلى السودان لإكمال الدراسات العليا في القضاء وتخرج سنة 1959م من جامعة الخرطوم (قسم الشريعة).

كان العلامة الحداد جاداً في طلب العلم وكان حاد الذكاء حريصاً على وقته وعلى الانتفاع به، ومما يؤكد ذلك أنه أكمل منهاج الطالبيين وعمدة المفتين في فقه الشافعية في فترة وجيزة مقارنة بزملائه، ومما يدل على حرصه في طلب العلم أنه لم يجد وقتاً لدراسة البلاغة نظراً لانشغال شيخه أثناء دراسته برباط تريم إلا قبل الفجر.

أبرز مشايخه
تتلمذ العلامة الحداد على مشايخ كثر من كبار علماء عصره منهم:

العلامة الكبير السيد عبدالله بن عمر الشاطري، العلامة المسند السيد أحمد بن محسن الهدار، العلامة السيد محمد بن هادي السقاف، سيئون، العلامة الكبير مفتي حضرموت السيد عبدالرحمن بن عبيداللاه السقاف، العلامة المحدث السيد علي بن محمد بن يحيى، مدير المعهد الديني الجديد بغيل باوزير الحاصل على عالمية الأزهر، القاضي الشيخ أحمد باصلعة، قاضي الديس الشرقية، العلامة العارف بالله السيد علوي بن عبدالله بن شهاب الدين، العلامة الشيخ محمد بن عوض بافضل، العلامة السيد أحمد بن عمر الشاطري مؤلف (الياقوت النفيس)، العلامة السيد محمد بن حسن عيديد، العلامة السيد محمد بن سالم بن حفيظ، العلامة السيد سالم بن حفيظ، العلامة الشيخ محمد يوسف موسى أحد علماء الأزهر الكبار، العلامة الشيخ علي حسب الله أحد علماء الأزهر.

ثناء العلماء عليه
أثنى عليه كثير من علماء عصره ووصفوه بالفقيه العلامة الجهبذ العامل بعلمه، القاضي الورع النزيه ...إلى آخر ذلك من الأوصاف الحميدة، إذ قال عنه العلامة المحدث السيد علي بن محمد بن يحيى (وهو أحد مشايخه): «فضيلة العلامة الفقيه، الضليع في دين الله الداعي إلى التمسك بهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم». وقال عنه العلامة السيد أبو بكر العدني بن علي المشهور رئيس أربطة عدن: «السيد الأمجد العلامة المرحوم عبدالله بن محفوظ الحداد السيد الجهبذ، حيث عرفته شخصية نادرة وفذة يعز الدهر أن يجيء بمثله».

مؤلفاته
ألف العلامة الحداد رحمه الله عدداً من المؤلفات والرسائل النافعة والمفيدة، منها:

- كتاب السنة والبدعة ويقع في جزئين طبع الجزء الأول منه في مجلد ثلاث طبعات والجزء الثاني لا يزال مخطوطاً وفيه تحقيقات فريدة ونافعة.

- رسالة (رفع الستر عن أدلة القنوت في الفجر).

- رسالة في بيع وشراء الذهب.

- المقصد المنيف بمراجع الورد اللطيف.

- رسالة عن حكم الغناء في الإسلام.

- رسالة الإسلام والزكاة.

- مجموعة مقالات متنوعة.

- مجموعة فتاوى تتضمن فتاواه المفيدة النافعة التي ألقاها عبر إذاعة المكلا بعنوان (ما يهم المسلم)، وقد شرع بعض طلبة العلم في تحقيق هذه الفتاوى وستخرج إلى النور قريباً إن شاء الله.

- ديوان خطب منبرية، فضلاً عن الدروس المسجلة في عشرات الأشرطة التي كان يلقيها في بيته لطلاب العلم في علوم الشريعة والتي مازال طلاب العلم يستفيدون منها إلى الآن.

حياته العلمية والعملية
عين قاضياً شرعياً بحضرموت سنة 1946م وتنقل في محاكم حضرموت بين الديس الشرقية والمكلا والشحر، وبعد مرور عام على تخرجه في السودان عام 1960م عين رئيساً لمحكمة الاستئناف بالمكلا، ثم تولى رئاسة المجلس العالي للقضاء بحضرموت سنة 1965م، واستمر فيها حتى استقال من القضاء سنة 1969م بسبب تغيير النظام الجديد لأحكام الشريعة واستبداله بها قوانين وضعية .

اشتهر أثناء توليه القضاء بالنزاهة والعفة والعدل والحكمة، ومما يدل على نزاهته في القضاء ترشيح الشيخ عبدالله عوض بكير- وهو القاضي النزيه العفيف المشهور الذي قضى ما لا يقل عن ثلث قرن في القضاء - له برئاسة المجلس العالي للقضاء براءة للذمة وحفظاً للأمانة وتوسيداً للأمر لأهله.

ومما يذكر له في مجال القضاء أنه كان حريصاً على استقلال القضاء، فلما أراد السلطان عوض أن يتدخل في شؤون القضاء زجرة زجراً شديداً وهدده بالاستقالة من منصبه وترك القضاء ووجه إليه رسالة شديدة اللهجة لازالت موجودة إلى اليوم. وبعد استقالته من القضاء تعرض لمضايقات شديدة لإجباره على مغادرة البلاد.

ولكنه رفض بشموخ وظل صامداً صابراً إلى أن تولى التدريس والخطابة بمسجد عمر بالمكلا 1975م، ثم محاضراًُ بكلية التربية (قسم اللغة العربية) 1976م واستمر في ذلك إلى أن وافته المنية.

أعماله الاجتماعية والخيرية
كان العلامة الحداد -رحمه الله- محباً للخير لا يستطيع أن يرد حاجة محتاج، وكان محل ثقة بين المواطنين والدولة، كما كان حريصاً على القيام بالمشاريع العامة المفيدة للمجتمع، ولتنظيم كل هذه الأعمال كان من المؤسسين الأوائل للجمعية الإسلامية الثقافية الخيرية الاجتماعية، وقد انبثق عن هذه الجمعية هيئة البر الخيرية التي كان يرأسها المرحوم وجامعة الأحقاف التي كان يرأس مجلس أمنائها وجمعية القرآن الكريم التي كان يرأسها.

وأخيراً وليس بآخر فقد اتصف العلامة الحداد - رحمه الله - بالعلم الواسع والفقه الناضج وبصفات ومزايا حسنة منها الإخلاص، التواضع، الصبر، الزهد، القناعة، الحكمة والشجاعة في قول الحق والاهتمام بأحوال المسلمين.

وفاته
بعد عمر مبارك قضاه في التعلم والتعليم والقضاء وخدمة المسلمين ومساعدة المحتاجين وخدمة الإسلام وقضاياه انتقل إلى رحمة الله تعالى في صباح يوم الجمعة الثالث عشر من شهر جمادى الآخرة سنة 1417هـ الموافق 25 أكتوبر 1996م.

وحين نقلت أجهزة الإعلام الخبر المحزن عن وفاة سماحة الشيخ الحداد، عاش أبناء حضرموت ذلك اليوم يوم وداعه (الجمعة) في أجواء غامرة بالحزن والفجيعة، وشهد مسجد عمر بالمكلا حشوداً ضخمة وفدت من كل مكان للصلاة عليه، وكان في مقدمتهم محافظ المحافظة صالح عباد الخولاني آنذاك وعدد من العلماء والضيوف ووفود إسلامية قدمت العزاء للفقيد العزيز.

وسودت صفحات الصحف والمجلات المحلية بحضرموت بمقالات الرثاء والقصائد.. نسأل الله تبارك وتعالى لشيخنا الحداد أن يتغمده بواسع رحمته وأن يسكنه فسيح جناته.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى