جول مدرم .. سكان مجهولون وكتل من الحرمان السرمدي

> «الأيام» انيس منصور حميدة:

>
اطفال في الخط العام وسط جول مدرم يبيعون الزيتون والليمون
اطفال في الخط العام وسط جول مدرم يبيعون الزيتون والليمون
مواطنون يعيشون حالة نادرة معقدة شائكة فوضوية وعشوائية .. قصة كفاح مستمر لمظاهر القهر والغبن السياسي وفنون الاستعباد لأناس بسطاء مسالمين يقهرهم الحرمان ويجرح أفئدتهم متنفذون، كثافة سكانية، محافظة بواقع بائس وممارسات مخيفة تئن لها الإنسانية ويرفضها الضمير، منازل بسيطة تقرأ في نواحيها كل معاني الفقر والفاقة فلكل منزل حكاية ولكل أسرة ألف حكاية وحكاية.

هذه لمحة موجزة يعانيها ساكنو جول مدرم، إحدى مراكز مديرية المسيمير التي تكتوي يوما بعد يوم بسلسلة قصصية من قصص الجور والتعسف ومصادرة حقوقهم، إنهم بشر مسحوقون يكابدون لقمة العيش ببيع الليم والجوافة، ينتظرون المواطنة المتساوية، يعانون من مآس وأنات تلين لها قلوب الذئاب وتدمع لها عيون المها، لم نجد شيئا يذكر يدل على وجود حكومة التغييرات الوزارية، غير ركام من الأحجار المصفوفة لبناء مدرسة لم تكتمل بعد منذ ثلاث سنوات. وما لمسناه هي جهود خدماتية بفضل منظمات دولية ومكاتب بناها الاستعمار والسلطنة يثني عليهم الساكنون. طابور من الأسئلة تثير في النفس علامات الاستفهام ونبرات التعجب تبحث عن إجابة بالذات التقسيم اللا إنساني الذي يتعامل به جهابذة الدولة، فتلك فئة مهمشة كماً ونوعاً وتلك فئة مقربة عداً ونقداً وأخرى فئة ممقوتة شكلاً ومضموناًَ، تزاحمت الخواطر وارتعشت الأنامل وهي تسطر حال هؤلاء القوم .. من أين نبدأ تشخيص الألم في جول مدرم؟ كانت البداية من أساس الحياة وشريانها .. إنه الماء.

< تحدث الينا الشيخ أحمد مطنوش عن حال الناس وكيف السبيل للحصول على الماء، فقال: «الماء تعب تعب، تعثر المشروع السابق الذي استفاد منه الناس سنين طويلة والموصل من عقان بمسافة (6كم) تعطلت ماكينة المشروع وتكسرت المواسير وضعف منسوب وصول الماء مع ما رافقه من ازدحام عمراني، ونعيش منذ فترة على نقل الماء من وادي تبن المحاذي للمنطقة على ظهر الحمير والبعض إلى خزانات المنازل، ولدينا مشروع ستنفذه منظمة ترنجل الفرنسية خلال الأيام القادمة لتوصيل الماء، والعائق هو بئر سابقة تم حفرها على نفقة مؤسسة هائل سعيد بعد تعب وجهد فشلت البئر بسبب العشوائية وعدم التخطيط. نذهب لطلب الماء بعد الدوام الرسمي الدراسي وأحياناً نغيب ونتأخر لكي نحصل على (دبتين) ماء». تساءلت وأنا أحصي سفريات الذهاب والإياب لقوافل الحمير محملة بدبات فارغة، أكل هذا يحدث على مرأى ومسمع مواكب المسؤولين الذين يشاهدون بأم أعينهم فداحة الوجع خصوصاً السائرين على خط عدن - تعز؟ ألا يشعرون بوجود مواطنين يمنيين يعيشون على ضنك، مقصيين، مهمشين، يلفهم حرمان قاتم؟

وفي أزقة جول مدرم وجدنا أسراً تعيش الفقر والفاقة والفجيعة وغياب الدولة، أطفال في سن الزهور وجدتهم واقفين في حالة استعداد تام وسط الخط العام يتأبطون أكياساً بلاستيكية كلما قربت منهم سيارة تجمعوا حولها كتجمع الجائعين على موائد الطعام، شعار الأطفال (زيتون - ليم) حاولت مخاطبة البعض، لكنهم مشغولون بطلبة الله على حد تعبيرهم.

< فيما تحدث أحد كبار السن: «شوف يا صحفي 75،% من سكان الجول معتمدون على بيع الليم والزيتون والمانجو».

هذه إحدى المفاجآت التي جعلت فقرهم وحاجتهم من أهم العوامل التي دفعت بسكان الجول إلى الإلقاء بأطفالهم وبناتهم تحت موت شبه محقق أثبتته الأيام والتجارب المرة وحذرت منه منظمات دولية في وطن اللا وطن وحكومة جوع شعبك.

عيادة ناقصة اسطوانة غاز
< مبنى قديم جداً بني ما قبل السبعينات بتعاون أهلي وعسكري وعملت على ترميمه منظمة ديا الفرنسية، وذلك المبنى هو الوحدة الصحية في جول مدرم، وصرح أحمد مقبل حيدرة، مدير الوحدة الصحية: «إن العمل في العيادة جار دون أي معوقات ونقدم معظم الخدمات للناس». وعن الصعوبات أشار إلى وجود مختبر، لكن بدون عامل مخبري ويذهب المرضى إلى عاصمة المديرية وعقان أو العند، ناهيك عن عدم وجود كهرباء، وأثناء تجولنا في نواحي العيادة وجدنا مخلفات أدوية مستهلكة ومعلبات أدوية فارغة وأكياساً بلاستيكية مرمية تلف العيادة مشكلة منظراً مقززاً، تساءلت لماذا هذه المخلفات متكدسة فقال: «لقد شاهد هذا المنظر خبراء منظمة الصحة ونال استغرابهم حيث وضحوا أن المخلفات الدوائية تسبب أمراضا خطيرة» وظل يسرد لنا مواقف حدثت بسبب هذه المخلفات توصلنا في النهاية أن منظمة ديا الفرنسية جهزت محرقة للوحدة الصحية لكنها حتى الآن بدون دبة غاز.. هذا الأنين المختصر خرج من فم مدير الوحدة الصحية عندها هالني جو من الحيرة والصمت والتناقضات، قلت لعضو المجلس المحلي بجانبي جمعيات أوروبية تنادي بالحفاظ على حيوان الباندا في الصين والنمر البنغالي في بنجلادش ووزارة الصحة لم تستطع توفير دبة غاز، إذاً نرفع مطالبنا إلى كافة المنظمات الاجتماعية والإنسانية ومنظمة الصحة وكل الشرفاء والمهتمين المدافعين عن حقوق الإنسان وحقوق الحيوان في اليمن وخارجها ونناشد أيضاً المحسنين وأهل البر والإحسان والمعروف النظر إلى عيادة جول مدرم بالعطف توفير اسطوانة غاز فقط!

مدرسة المتزاحمين
منبع العلم ومنبر الثقافة في جول مدرم (مدرسة عمر بن العاص) تعيش في وضع مُزر ومخيف.

< يذكر لنا مدير المدرسة عبده مهدي أحمد قائلاً: «الوضع التعليمي كما ترى.. صفوف دراسية آيلة للسقوط متزاحمة وسعتها صغيرة لأنها كانت محكمة أيام سلطنة الحواشب، ثم تحولت إلى مدرسة تم بناؤها قبل الستينات، ممرات المشاة أمام الصفوف حولناها إلى فصول دراسية، نقص في الكتب والتخصصات، أثناء سقوط الأمطار يمتنع الطلاب من الحضور وتتحول الفصول إلى بركة ماء، تزاحم شديد في الصفوف الدنيا، حيث يبلغ عدد طلاب الفصل الواحد أربعين طالباً، إما حمام المدرسة فحولناه إلى مخزن للكتب المدرسية».

ثم توجه بنا مدير المدرسة إلى مشروع المدرسة الجديد الذي لم ينفذ منه سوى أساس أرضي ومجموعة من الأحجار المتراصة تم اعتمادها ضمن المشاريع المركزية، وقال: «لها حتى الآن سنتان ونصف وإلى الآن ونحن منتظرون، تابعنا المجلس المحلي عنها، فأفادوا بأنه تم اعتماد ثلاثة مليون وستمائة ألف لبنائها بعد تعثرها، كان ذلك في رمضان الماضي وإلى الآن لم نر شيئا غير الوعود، كذلك لا توجد ثانوية عامة وطلاب جول مدرم يذهبون إلى عقان وإلى المسيمير».

وأثناء وجودنا في المدرسة تفاجأنا بزيارة مدير مكتب التربية والتعليم بمديرية المسيمير الأستاذ محسن الكومي لتفقد سير العملية التعليمية، الذي قال إنه يقوم هذه الأيام «بالكثير من الإصلاحات التعليمية بعد تردي وتدهور مستوى التعليم، وأن تعيين مديراً للتربية كان قبل شهرين، ووضعنا خطة عمل وعملنا على إعادة توزيع المعلمين حسب التخصصات واحتياجات المدارس». سألناه حول مقصد زيارته لمدرسة جول مدرم، فرد علينا «لأجل التخطيط ووضع حمام للمدرسة بعد أن أستكمل وضعية حمامات مدرسة عقان».

وعن موضوع عدم استكمال مدرسة الجول، أضاف: «إن ذلك من اختصاصات المجلس المحلي وهو عليه استلام المدرسة وتوفير الكادر الوظيفي» هكذا وجدنا مدير التربية متحمسا للعمل التربوي، باذلاً كل جهد لخدمة التعليم، كما ذكر لنا الآباء أنهم استبشروا أخيراً بتعيين الكومي مديراً للتربية، وأثنى المدرسون عليه قائلين: «الوضع التربوي منذ تولي المدير الجديد أحسن من السابق بكثير». نشير إلي ذلك كأمانة صحفية ونتمنى من مدير التربية التواصل والمثابرة ومشوار الألف ميل يبدأ بخطوة.

مدرسة عمر بن العاص بنيت قبل الثورة
مدرسة عمر بن العاص بنيت قبل الثورة
فانوس ولو طال الزمن
يشعر المرء بالاكتئاب والزكام والصداع من هول ما يسمع ويرى عن كهرباء هذه المنطقة، التي تداخلت فيها القوى وسيطرت عليها نغمة فتاوى آخر زمان، وتلاعبت بها الضمائر البشرية لتنفيذ مخططاتها عفواً (مصالحها) بدم بارد وبراعة فنية ممتازة لتبقى كهرباء جول مدرم في خانات القعقعة، حسب حديث السيد عبد الرقيب علي عبدالله الذي وضح وجود كهرباء منذ عام 85م حتى تم نهب المولد في حرب صيف 94م، وأثناء مرور رئيس الجمهورية أمر بتزويدهم بمولد آخر تحت مسؤولية لجنة أهلية، واشتغلت الكهرباء فترة زمنية، ثم قام بتسليمها مسؤول المشروع بحجة الإثم والمنكرات التي تصل للمنازل عبر شاشة التلفاز، ولا زالت منقطعة حتى اليوم، والبعض قال: إن السبب هو وجود عطل فني بسيط كما يسمع للمولد قعقعة أثناء التشغيل، ونحن نسدد ما علينا. مطالبين بعودة تشغيل المولد وتوزيع تكلفة الأعطال على المستفيدين.

واستغرب عبد الرقيب مرور خط الضغط العالي فوق منازلهم ولم يمد لهم خط، وناشد محافظة لحج ربط المنطقة بكهرباء الضغط العالي.

مافيا الأراضي
مازالت صيحات وأنات أهالي جول مدرم تهتز لها أدراج المحاكم، ولازالت قضايا أراضي جول مدرم منظورة أمام القضاء، موجات محمومة وحملات شرسة، أساليب استفزازية مع ما يصاحبها من جراءة شديدة تثير الدهشة والعجب، مشاهد يقوم بها مشايخ متنفذون لسلب ونهب الجهة الشرقية والجنوبية الممتدة من مثلت العند حتى عقان.

لقد كانت محميات سلطنة الحواشب من زائدة حتى المسيمير، هكذا يحدثنا التاريخ والآثار.. ماذا يحدث لأراضي رعاة الأغنام؟ قمة الغطرسة للبسط على أراضي مواطني جول مدرم،.

< يقول الأخ صالح عبدالله الربح: «هذه الأراضي فيها حكم سابق بأنها ملك الدولة بقرار تنفيذي من القضاء، ولازالت قضايا أخرى منظورة أمام محكمة لحج، وقررت فيها توقيف مسلسل البسط، إلا أن تلك القرارات لم تنفذ، كما توجد مذكرات من عقارات الدولة وقرار تحفظي بوقف التصرف بالأراضي، لكن مازالت عمليات البسط من قبل متنفذين تزداد ولا يزال الزحف مستمراً باتجاه الطنان والكسارة .. بلاغات وتوجيهات عليا قوبلت برفض متعمد فوا أسفاه على القانون الذي ضاع». وظل يسرد لنا الأخ صالح كميات من الوثائق والبلاغات والتحويلات و..و..الخ، يقف قلمي ذات الصناعة الفرنسية عن التعليق، لنترك لكم معاشر القراء قراءة كلمات صالح عبدالله الذي خاطبني من مهجة تتألم ثم تهدر زفرات إيه.. إيه يا وطن، يموت فيه المواطن ليعيش المتنفذون مردداًَ «بيننا وبينهم الله».

بعد البحث والتحقيق خرجنا بكم هائل من المصائب الملغومة المدروسة بفعل فاعل.

< التقينا بعضو محلي مركز جول مدرم الأخ أمين سالم كربان، الذي أكد صحة وحقيقة ما ذكرناه آنفاً شاكراً صحيفة «الأيام» على نزولها، مضيفاً: «الناس هنا في حالة يأس وتذمر، وخدمات الدولة غائبة تماماً، أهالي جول مدرم مظلومون، محرومون، مطحونون، يعانون فصولاًَ من الحرمان .. إهمال وتجاهل وتمييز عنصري تتعامل السلطة به مع هذا المركز وكأنهم دخلاء لا يستحقون مشاريع، مطالبات ووجع قلب ومتابعات تذهب سدى مع السلطة المحلية».

عند هذه الوقفة الأخيرة ودعنا جول مدرم وأهلها بأفئدة ملتهبة وتأزم وتوتر نفسي، صور من الشقاء والحصاد المر ..غالبية يبحثون عن لقمة خبز تسد الرمق وجرعة ماء نقية، والقلة يبحثون عن قاض عادل يرفع عنهم سياط المتنفذين وغرور المتعجرفين، لقد ودعناهم بعد أن وجدنا احتقانا وغليلا في نفوس المسالمين، بعضهم عبر عن هذا الاحتقان، وآخرون رفضوا الكلام ولزموا الصمت بحجة أن الكلام لا يجدي بقدر ما سوف يسبب لهم من مشاكل، وبعضهم أعطوني مذكرة موقعة لعدد كبير من المواطنين يشكون فيها أحد أعضاء محلي المسيمير عن مركز جول مدرم، بأنه كلما رفعوا إليه مطالبهم رد لهم «أنا في غنى عن أصواتكم، الله يخلي لنا أصوات العسكر».

فيما قالت بعض موظفات مدرسة عمر بن العاص: «مهما تكلمنا فإن حمار الماء ما يهمش المطر» وقالت إحداهن: «سجل في «الأيام» جول مدرم لغز.. لغز!!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى