خلي المغازي لأهلها..

> فضل النقيب:

>
فضل النقيب
فضل النقيب
بالنسبة لي شخصياً فإن الخارطة إلى يافع مرسومة في حنايا القلب وتلافيف الدماغ، وحين يُكفّ بصري فإنني سأراها بوضوح وربما أكثر مما أراها الآن. كنت أترحل مع أقراني ورصفائي ومجايليّ ونحن دون العاشرة في طريقنا إلى مدينة «قعطبة» للدراسة فنمضي ثلاثة أيام بلياليها حتى نصل إلى هناك ونحن حُفاة بدون أحذية، فإذا صعدنا على ظهور الحمير أدمتنا سروجها الصوفية التي تخزّ كالإبر، وتخطفت وجوهنا الأشجار الشوكية التي تتعمد الحمير المرهقة المرور في ظلالها ونحن غفاة أو شبه غفاة، وعموماً فإن ذوات الأظلاف وذوات الأخفاف تعاني في مناطق الجبال والصخور الملساء، وكثر الله خيرها على ما أسدته وما تحملته فحين كان مرافقونا يرفعون عن ظهورها السروج حين نقيل أو نمسي نشاهد جروحاً دامية بطول ظهورها فلا ندري أنبكي لها أم لأجسادنا المهدودة وأقدامنا التي تنزّ الدماء وشفاهنا التي شققها ظمأ الارتحال والشمس الحارقة أو البرد القارس في ليالي الشتاء الكابية، وكثيراً ما عبرنا وادي بنا وقد منينا أنفسنا الأماني للحصول على ما يطفئ العطش فنجده راكداً بلا مياه جارية فنأخذ ما تيسر من «الخزه» وهي التربة السوداء اللزجة المليئة بالميكروبات فنضعها في أي خرقة متاحة تم نمُزّ ذلك المحلول الذي لا تطاق رائحته في أفواهنا ونحمد الله على أننا مازلنا أحياء، وفي مواسم أخرى نجد وادي بنا تزلزله السيول المنحدرة من سلاسل الجبال المحيطة به على امتداده، فهو يشق الأرض شقاً بعنفوان عظيم في طريقه إلى دلتا أبين فنحبس اليوم واليومين والثلاثة غير قادرين على عبور مجراه حذر الموت المنذر، «وياروحي ما بعدك روح»، ومن هذه المعاناة جاء المثل اليافعي «يا بنا يا ظما» ويُضرب للأمر يُغدق حتى يفيض ثم يشحّ حتى يغيض، وكانت تلك حياتنا في رؤوس الجبال نتوقع الجوع أكثر من توقعنا للشبع ولذلك حفر الناس مخازن الغلال في بطون الجبال استعداداً للسنوات العجاف كما يحفرون هذه الأيام لتشييد سدود المياه المنزلية استعداداً لسنوات العطش، وكل هذه أعمال إنشائية على جانب عظيم من الإبداع لأناس أولي عزم وأولي بأس شديد، وأتعجب أشد العجب من جامعاتنا وباحثيها الذين لا يذهبون إلى التاريخ في تجلياته الإنسانية العظيمة في الواقع لينطق بعد صمت وإنما يعيدون سيرة الكثيرين من أسلافنا الذين كانوا يكتبون الكتب عن الكتب فتتصحر المعرفة حين تغدو رميماً عن رميم ومقلداً عن مقلد لابتعادها عن الينابيع التي تتدفق بكل جديد، ولا تكف عن العطاء كما هو شأن الحياة التي لها في كل يوم شأن وآية.

عموماً.. ما لنا ولهذا، فهو مرض عربي بامتياز، وعودة إلى تلك الأيام التي تغيّرت وغيّرت؛ فيافع تشرب الآن عذباً زلالاً من وادي بنا الذي أضحك وأبكى ومنع وأعطى، فهو كأمه الأرض حفظ الأمانة تحت سطحه الذي عركته السيول ولوّحته الشموس ولوّعته البروق وزلزلته الرعود، وقد كلف مشروع المياه إلى الهضبة اليافعية 75 مليون دولار، دولار ينطح دولار، لكن هذا الاستثمار الباهظ مهدد اليوم بالتلاشي، فقد أخلفت الأمطار مواعيدها، وشحّت الأعماق، والذي كان دفقاً أصبح تقطيراً، ونخشى أن يصبح غداً غوراً، فنبكيه كما بكينا سدّ مأرب ووادي الجنتين ألفين من السنين قبل أن يعاد بناؤه على نفقة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان العربي انتماءً المأربي ابتداءً الإماراتي قائداً وبناء وعطاءً رحمة الله عليه، ولذلك فهو أحد أعظم حفاظ الأمانات في تاريخنا، ولو عرف مشايخ وأعيان ورجال مأرب قيمة هذا المنجز لافتدوه بأعينهم وكفوا الأيدي العابثة غير المسؤولة التي جعلت هذا المشروع العظيم غير مكتمل منذ أكثر من عشرين عاماً، ومن العار أن يوصم اليمنيون بالجهل والغلاظة وعدم الوفاء بالعهود «إن العهد كان مسؤولاً».

مالنا أيضاً ولهذا، فللبيت رب يحميه، ولكنه الشجى يبعث الشجى، ودائماً ما أقول للائم «فدعني فهذا كله قبر مالك»:

فإذا انتشيت فإنني

ربُّ الخَوَرْنَق والسدير

وإذا صحوت فإنني

رب الشُّويهة والبعير

ونحن كذلك نقدم رجلاً ونؤخر أخرى، وياغارة الله من ذي ما يغير، لأن بعض الأمور تحتاج إلى رجال وحبال و«لا تغز إلا بقوم قد غزت.. أولا فخلي المغازي لهلها».. وسامحونا من كلام زايد وناقص.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى