الأرض الشاعرة..

> فضل النقيب:

>
فضل النقيب
فضل النقيب
لكم بدت لي الأرض شاعرة، تطرز القصيد بزهورها الجبلية وأمواج بحارها السخية وأنسامها الزكية، فهي مصدر كل إلهام وإن تردى أثواباً مموهة، واتخذ لغات غير لغات أحجارها وطيورها وما يدب على سطوحها، وتربطني بجبال يافع كما ببحر عدن عاطفة مشبوبة وعلاقات حب أزلي لا تنطفئ نيران عشقه وهذا ينعكس في نظرتي إلى إبداعات المبدعين ممن يعانون القول ويزينون الحياة، أولئك الذين يشتعلون ليضيئوا طرق الآخرين دون أن يسألوا أجراً. كنت أسير في سوق 14 أكتوبر الضاج بالحركة في «موسطة» يافع العليا قبل عدة سنوات، فإذا بي وجهاً لوجه مع الشاعر الشعبي الكبير شايف محمد الخالدي متمنطقاً بخنجره يشق طريقه في الزحام بعنفوان وبوجه عبوس قاسي الملامح كأنه ذاهب إلى حرب «البسوس»، قلت في نفسي لقد تأبط الخالدي شراً، ثم تابعته وهو يدلف إلى المقهى حيث كانت تنتظره عصابة الشعر الذين ما أن أهل عليهم حتى انفجرت أساريرهم المعقودة وانطلقت ألسنتهم فتأنسنوا بعد أن كانوا متوحشين.

كان لواء الشعر قد عقد للخالدي دون منافس وحوله كوكبة من شعراء ممتازين يناوشونه ويستفزون قريحته الدفاقة من قيفه إلى حمرة إلى دثينة إلى الدوحة إلى أميركا إلى بريطانيا وسائر المهاجر التي حُمل الشعر إليها زاداً للغربة وحنيناً للوطن وتأكيداً للهوية، ما كان أشبه تلك العصابة التي يختلف منظرها وهمها عن باقي المتسوقين في أنسام ذلك الصيف المنعشة، بعصابات «الصعاليك» التي كانت تجوب صحارى الجزيرة العربية بقيادة الشعراء الفرسان الفاتكين مثل الشنفرى، وتأبط شراً والسليك بن السلكة وعروة بن الورد وغيرهم من الذين رفعوا شعار:

أقسّم جسمي في جسوم كثيرة

وأحسو قُراح الماء والماءُ بارد

كان الخالدي قادماً من قريته «الجاه» في الجوار القريب من أرض القعيطي التي أصبحت خزنة الشعر والشعراء في الهضبة اليافعية مثلما هي منطقة «الحد» مخزن الغلال ومصدر أجود أنواع «البَرَع» الحربي.

اكتفيت بالنظر إليهم من بعيد، فما كانوا ليعرفوني، أنا الابن الضال الغائب منذ أربعين عاماً، كما أنني لم أستشعر في نفسي اللباقة المطلوبة بعد طول الجمام، فأخذت أردد بيتي أبي الطيب المتنبي:

يقول لي الطبيب دواك عندي

وداؤك في شرابك والطعامِ

وما في طبّه أني جوادٌ

أضرّ بجسمه طولُ الجمام

خرجت من المقهى تحت ظلال السّحب التي حجبت الشمس وبدأت تكتب الشعر بخيوط المطر، فإذا الجبال تتجاوب معها بيتاً بيتاً وحرفاً حرفا، والناس من خلفهما يرددون ويتعلمون الشكر. تذكرت ثلاثة أبيات ضمن قصيدة طويلة كتبتها ذات حنين في الغربة فأدركت كما لمع البرق أنها من وحي أجواء الطفولة، وكانت وصفاً للناس والبيئة:

في كل نفس شاعر مترسل ** أو موشك أو طامحٌ يستفسرُ

وترى الجبالَ تخالها مسحورةً ** تنتابها حمّى القصيد وتشعرُ

والبحر يرعشهُ الحنين يخضّهُ ** فيفيضُ عن وجد المُحبّ ويغمرُ

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى