قصة قصيرة بعنوان (عصيدة)

> «الأيام» مختار مقطري:

> قبل عشر سنوات.. طلق عبدالجبار قريته وخلّى حقله للجرذان، ونزل زاحفاً إلى المدينة التي اختنقت، ليشرف على الدكان الذي استأجره عمه في حافة «القريشة بالشيخ عثمان».. وظن عبدالجبار أن النار تحت جلده سوف تخمد، لكنها اضطرمت و«لهفت» ذاكرته.. لا تحرقه ولا تحيله رماداً.. بل ظلت تنهشه ليتحد معها في جذوة بيضاء تسيل في عروقه كقطرة ماء ظمآنة كالثلج.

لكنها النار التي لا لون لها ولا دخان.. كامنة تحت عمود صخري أجوف، يزحزحه لتتدفق من فوهته حمماً باردة تواقة لعواصف الغبار.. وفي «حافة القريشة» عاش عبدالجبار عشر سنوات، لكن صورة النار هذه ظلت في ذهنه، مند أن ذاقها في «عصيدة» زوجته وفي «لحوحها» الأسمر و«مرقها» اللذيذ ثم تذوق طعمها في «عصيدة» حملتها إليه جارتهم الأرملة الحسناء يوم مرضت زوجته.. ثم قال لصديقه حسن وهو يودعه:

- كلها «عصيدة».

وأراح حسن جاروفه على كتفه وهو يلهث من التعب، ثم قال هو يمسح عن وجهه العرق بكم قميصه الأيسر:

- بعد يومين ستفتح فخذيها للمحراث الآلي.

و«حافة القريشة» لا تهدأ إلا بعد العاشرة مساء، ومنذ عشر سنوات يستيقظ عبدالجبار من نومه مبكراً في كل صباح ليقف «فوق المغل» خلف طاولة خشبية لها ستة أدراج وسطحها مغطى (بفكرميكا) رمادية.. كل يوم طويل.. رغم نشاط (صبيانه) وهم يخدمون الزبائن، وضحكاتهم وهم «يتناجموا» أو يطلقون تعليقات بذيئة مشبوبة بشبق مكتوم كلما اهتزت «حافة القريشة» تحت قدمي أنثى عابرة فيصيح عثمان:

- السلام لله.. خليك كريم مع الكريم.

ويزاحمه سعيد بتعليق وقح:

- قد لي عام ماذقتوش «عصيدة».

أما عبدالله فيطلق تعليقاً لا يتغير:

- ياريت عدن مسير يوم.

حتى يحيى العجوز كان يشاركهم تعليقاتهم، فيصبح وهو واقف بباب الدكان وقد رفع (فوطته) فيكشف عن فخذيه الضامرتين وبينهما يظهر طرف من سرواله الداخلي الذي صار لونه كلون الروتي المعطوب:

- أيش أخرك.. باتندم لو عرفت اللي فاتك

ويبتسم عبدالجبار.. ثم «تفلت» يده اليمنى وتختفي خلف المنضدة.

وجبة غداء مشهورة في عموم اليمن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى