القات في اليمن .. ذلك الشر الجميل

> «الأيام» عبدالقادر باراس:

>
سوق شميلة للقات في صنعاء
سوق شميلة للقات في صنعاء
هو (شيطان في صورة شجرة)، عادة أصبحت أمرا واقعا، وغريزة الحياة لدى اليمنيين، وهذا الوصف ليس من قبيل المبالغة، بل هو اختزال للتاريخ والجغرافيا في أرض اليمن السعيد .. إنها شجرة القات.

هذه الوريقات أصبحت إحدى الوجبات التي يتناولها مجتمعنا اليمني، والتي لا يستطيع التنازل عنها فهو (الكيف)، حيث آخذت في الانتشار بين فئات المجتمع بصورة تثير القلق، كونها شبيهة بآفة الأفيون التي ظلت مستفحلة في المجتمع الصيني، إلى أن تم اجتثاثها والتخلص منها، حيث كانت هذه الآفة سائدة بسبب المستعمر الذي فرضها في المجتمع الصيني ليسهل السيطرة عليه بواسطتها، وبالمقارنة بما كان سائداً عند الصينيين في تعاطيهم للأفيون وبين مجتمعنا اليمني في تعاطيه لآفة القات ، سنجد أن اليمنيين أوفر حظاً من الصينيين وإن كان حظاً تعيساً ، لأن آفة ألأفيون تم فرضها على المجتمع الصيني، أما القات في اليمن فإننا غرسناه واخترناه طواعية دون أن يفرضه علينا أحد.

ولا يختلف اثنان حتى وإن كانا من كبار المولعين على أن مضغ القات يعتبر رأس المصائب، وأنه وبلا منازع ذروة سنام الفساد، ومستنزف رئيسي للصحة والمال والوقت الذي يهدر في غير منفعة، وأصبح يهدد مستقبل الأجيال ومقومات الحياة، فهذه النبتة الخبيثة تحيط بنا من لحظة الاستيقاظ من المنام، حيث يبدأ التفكير فيها في المنزل وفي موقع العمل، ونخطط ونختلق الذرائع والفرص للحصول على ما يساعد على شرائها، فالبعض منّا يبذل الغالي والنفيس للفوز بشرائها، حتى وإن تطلب الأمر التضحية بمصاريف العائلة أو أثات المنزل أو ارتكاب جرائم مثل السرقة والاختلاس والرشوة من أجل توفير المال لشرائها، لا شك أنه أمر مثير ومخيف في آن واحد ، لكنها عادة دأب المجتمع على تقبلها والتكيف معها باستسلام غريب وعجيب، وسلم الكثيرون رؤوسهم وجيوبهم لها وألغوا التفكير بالمستقبل بطواعية امتثالاً لهذه النبتة اللعينة، مما يتطلب أن نضع أمام ما يحدث عشرات، بل مئات من علامات التعجب والدهشة والاستغراب!!.

إن تعاطي القات لم يعد مجرد تسلية كما يظن البعض، لكنة تحول إلى نشاط يومي وسمة من سمات الهوية الثقافية، بل وصار جزءاً من العملية السياسية، وأصبح بحث القضايا والموضوعات الحياتية واتخاذ القرارات بشأنها لمعالجتها يتم أثناء جلسات القات، لذلك تأتي هذه المعالجات والقرارات ناقصة ومشوهة لا تخدم الصالح العام.

وهناك رأي لأنصار القات يزعم أن الشريعة الإسلامية لم تتعرض لذكر القات، وأن مضغه ليس محرماً، والحقيقة أن هناك خلافاً فقهياً حول الموضوع، حيث اعتبره البعض مكروهاً والبعض الآخر أباح تعاطيه، رغم أن الشريعة الإسلامية تأمرنا بالحفاظ على حياتنا.

وإذا حاولنا الحديث عن القات بلغة الأرقام، فإن النتيجة تقدم صورة مقلقة وبشعة تنذر بخطر حقيقي، فالأرقام المأخوذة من النشرات الصادرة خلال السنوات الست الماضية عن بعض من الجمعيات المناهضة للقات ومراكز الأبحاث المتخصصة، توضح أن اليمنيين يصرفون على تعاطي وزراعة القات أكثر من (400) مليار ريال سنوياً، ويهدرون (20) مليون ساعة عمل في مجالس القات يومياً، ويشغل أكثر من (70%) من إجمالي الزراعات المستديمة، و (55%) من المياه تستخدم لري القات، وأن أكثر من (120) مبيداً محرماً دولياً تستخدم في زراعته، وأن أكثر من (90%) من الذكور و(60%) من الإنات يتعاطون القات، وينفقون حوالي ثلاثة أرباع دخل العائلة عليه، كل تلك الأرقام باتت مخيفة، حتى أنه قد تم تصنيف القات في المنظمات العالمية و مراكز الأبحاث العلمية بأنه أحد أنواع المخدرات ويحرم تعاطيه، وهناك كثير من الدول شرعت قوانين رادعة وصارمة تصل إلى عقوبة السجن على متعاطيه.

وهناك العديد من المظاهر المشينة واللا حضارية لجلسات القات، وخاصة عندما نشاهد المتعاطين وهم يفترشون أركان الشوارع والأزقة متكئين على الأحجار وقطع الكراتين بصورة تخدش الحياء وتسيء للمنظر العام وتزعج المارة ، حتى أن المتنفسات والكورنيشات والمتنزهات تحولت إلى ساحات مفتوحة للمخزنين، مما حرم الزائرين وعائلاتهم من الاستمتاع بالشواطئ والمتنفسات، إلى جانب ذلك إقدام باعة القات على استخدام الأرصفة لبيع القات دون مراعاة حق المشاة، مما يسبب عرقلة في حركة السير ومرور المركبات، وكل تلك المظاهر تحدث أمام مرأى ومسمع الجهات المعنية والتي تتمادى دون منعهم أو فرض قوانين وأنظمة تلزمهم بعدم الظهور بتلك الصورة التي تشوه المنظر الجمالي والبيئة، ومن المخجل أيضاً أن الزائر الأجنبي يرى ومنذ لحظة وصوله للمطارات والموانئ أو المنافذ الحدودية للبلاد، العاملين بهذه المواقع يؤدون عملهم وهم يمضغون وريقات القات، مما يخلق لديه انطباعات غير جيدة، والسبب هذه العادة السيئة.

ومع اتساع واستمرار مشكلة القات، فإن الحد منها ومكافحتها لا يمكن أن تتم من خلال إصدار النشرات الإرشادية بأضراره، أو في كتابة التحقيقات والمقالات في الصحف والمجلات، أو في عقد ورش العمل والندوات، لأن تلك النشاطات صارت مجرد صيحات غير فاعلة أو مؤثرة، فالمشكلة فرضت نفسها وبقوة على كل مظاهر الحياة وعطلت مسيرة النماء والتقدم، مما يستدعي معالجة ومواجهة جادة من الجميع حكومة وأحزاباً ومنظمات مجتمع مدني للعمل بصورة مشتركة، من أجل تخليص المجتمع من هذه الآفة التي أصبح أسيرها وصارت مسيطرة علية وأثرت على التوجهات الهادفة إلى إحداث تطور ونهضة تنموية شاملة.

وبعودة إلى ماضي اليمن غير البعيد سنجد أن مشكلة القات وما ينتج عنها من أضرار، حتى مع قيام الثورة اليمنية ( سبتمبر وأكتوبر) وانتصارها لم تبرز أيه جهود أو توجهات نحو تقليص زراعة القات واستهلاكه إلا فيما ندر، فإلى ما قبل تحقيق الوحدة اليمنية، كان جنوب اليمن أكثر جدية من شماله في معالجة مشكلة القات، حيث أصدرت حكومة الجنوب آنذاك قانوناً بمنع تعاطي القات وحيازته وشرائه خلال الأسبوع ما عدا يومي الخميس والجمعة والعطل الرسمية، وتضمن القانون عقوبات على المخالفين، وقد استثنى القرار بعض المناطق من المنع وهي مناطق زراعته، بينما استمر منع دخول وتعاطي القات نهائياً في محافظتي حضرموت والمهرة، فكان القرار ايجابياً ، إلا أنه بطبيعة الحال مس الفئات المرتبطة بزراعتة وبيعه والخدمات المرتبطة به، فخرجت مسيرات في مناطق زراعتة وتحديداً منطقة الضالع، وردد المشاركون فيها شعارات ضد القرار. وفيما يتعلق بشمال اليمن كانت هناك محاولات في بداية السبعينيات تهدف لمنع زارعته، حيث شرع الأستاذ محسن العيني، أثناء توليه الحكومة آنذاك بوضع خطوات أولية تقضي بقلع شجرة القات إلا أن المشروع أجهض في حينه.

المخزنون يفترشون المتنفسات العامة
المخزنون يفترشون المتنفسات العامة
ومع قيام الوحدة اليمنية السلمية عام 1990م كانت الآمال والتطلعات لدى جميع اليمنيين بولادة دولة النظام والقانون على أن تؤخذ الايجابيات من تجربة الشطرين وتطبيقها من قبل الدولة اليمنية الجديدة، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث خاصة فيما يتعلق بظاهرة تعاطي القات، حيث تم إلغاء ما كان سائداً في الجنوب، وأصبح القات يتعاطى طوال أيام الأسبوع، كما دخل المناطق والمحافظات التي كانت لا تعرفه إطلاقاً.

ومع ذلك فإن وضعاً كهذا لم يسكت عنه البعض، وظهرت محاولات شعبية لمكافحة ظاهرة تعاطي القات من أبرزها إنشاء الجمعيات الأهلية لمواجهة ومكافحة القات في كثير من المدن والمحافظات، إلا أنه وللأسف الشديد ظل دورها محدوداً وأصبحت مجرد أطر وتجمعات غير فاعلة تنتج نشرات ودوريات غير منتظمة لا تمكنها من أداء رسالتها وتحقيق أهدافها المرجوة لخدمة المجتمع وإنقاذه من هذه الآفة المدمرة، لهذا انحصر نشاط هذه الجمعيات في داخل مقراتها، ولم تنتقل به إلى الناس ليحظى بالدعم والمساندة.

وإذا تطرقنا الى التوجه الرسمي للدولة وموقفها من هذه الظاهرة، نجد أن دورها كان قاصراً لم يتعد وسائلها الإعلامية، ولم تعط للمشكلة حجمها الحقيقي لغياب الإرادة الصادقة ولسوء التخطيط المستقبلي لمعالجة مشاكل البلد الاقتصادية، واكتفت فقط بإطلاق الأحاديث والخطابات العابرة في المناسبات، لكن على الصعيد العملي لم يبرز ما يفيد أن هناك نية لمعالجة مشكلة القات وتخليص المجتمع من أضراره.

وللتأكيد على عدم الاهتمام الحكومي بمعالجة الظاهرة، يمكن العودة بالذاكرة إلى الخلف قليلاً، وبالذات الفترة التي صدر فيها قرار رئيس الجمهورية مع قدوم الانتخابات الرئاسية في سبتمبر 1999م و الذي تضمن منع تناول القات على المنتسبين للمؤسسات العسكرية المختلفة، وذلك في داخل الوحدات ومقرات العمل ومنعهم من دخول أسواق القات بألبستهم الرسمية، وكذا القرارات السابقة التي صدرت من الحكومة بهذا الشأن، وشملت الموظفين في المؤسسات والمرافق الحكومية المدنية، وقضت بمنعهم من تعاطي القات داخل أماكن العمل، لكن عند متابعة مدى تطبيق تلك القرارات ومستوى الإجراءات المنفذة حيال المخالفين، سنجد أنها لم تستمرالا لفترة وجيزة ثم توقفت وذهبت تلك القرارات ادراج الرياح، ولم نعد نسمع عن عقوبات تتخذ بحق المخالفين، مما يدل على أننا في اليمن نصدر القرارات ونتحمس لها ونتفاعل معها في البداية لكن مع مرور الزمن ننساها.

وهناك الكثير من الأدلة والبراهين التي تظهر أن التراجع والفشل هو المصير المحتوم لكل جهد أو محاولة أو إجراء يهدف إلى وضع المخارج والحلول لمشكلة القات وآثارها السلبية في أوساط مجتمعنا، ولا نذهب بعيداً فالمؤتمر الوطني حول القات الذي انعقد في بداية أبريل 2002م بصنعاء، والذي كان الشارع اليمني بمختلف شرائحة ينتظر منه خيراً لوضع الخطوات العملية لمواجهة هذه الظاهرة والتخفيف من آثارها بالنظر إلى ما هو مطروح أمامة من الأبحاث والدراسات الهامة، ولكن هذه الآمال خابت، لان المؤتمر انفض بعد افتتاحه مباشرة، حيث سادت الفوضى أولى جلساته، ومن حينها لم تظهر أي محاولة لدراسة أسباب فشل المؤتمر، وقد تعددت الروايات عن أسباب فشل المؤتمر، فبعضهم أرجعها إلى عدم توفر مصادر التمويل لأعماله، وآخرون رجحوا أنها ناتجة عن عراقيل وصعوبات افتعلتها جهات لاعتقادها أن نجاح المؤتمر وما سيتوصل إليه من نتائج سيلحق الضرر بها، خاصة وأنها المستفيدة من الاشتغال بالقات سواء في الزارعة أو التوريد أو التسويق .

وفي الأخير، وأمام هذه الصورة القاتمة، يظل السؤال قائماً، ويفرض نفسه بقوة وهو: إذا كان الإنسان اليمني قد بنى الحضارات القديمة والسدود العظيمة، وغيرها من المعالم الأثرية والتاريخية بدون تعاطيه للقات، فلماذا لا نأخذ الدورس والعبر من التاريخ ونمضي في تحقيق نهضة وتنمية الوطن وتلبية آمال وطموحات المجتمع بدون قات؟ إذن فإن مكافحة القات والحد من مشكلاته وآثاره الخطيرة لا يحتاج إلى قوانين وإجراءات وعقوبات فقط، بل أيضاً إلى قناعة وصحوة مجتمعية وإرادة حقيقية مخلصة وجريئة تعمل على الوقوف بجدية أمام المشكلة من مختلف أبعادها لتتم المكافحة بصورة متناسقة ومتكاملة وبالشراكة بين الدولة والمجتمع باعتبارها مهمة إنسانية ودينية ووطنية تهدف إلى تخليص المجتمع من هذه الآفة، والحفاظ على صحتهم والبيئة المحيطة بهم وحماية مستقبل الأجيال القادمةوالذين بهم ستحقق الأهداف والتوجهات نحو بناء الوطن وتنميته وازدهاره.

وللوصول إلى هذه الغاية لا ينبغي أن يتم القضاء على ظاهرة القات ومشكلاته قضاء نهائياً وسريعاً، بل بصورة تدريجية ووفق خطط وبرامج مدروسة تؤدي إلى تحقيق ما نصبو إليه بمشاركة وتعاون جميع الجهات الحكومية وغير الحكومية، باعتبار أن المواجهة مسؤولية تقع على الكل وبدون تقدير هذه المسؤولية واستيعابها سيظل شعار القات في اليمن (شرٌ جميلٌ) وهو عنوان حياة وثقافة المجتمع اليمني.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى