10 أساطير حول التنظيم والإدارة والفساد

> «الأيام» دانييل كوفمان:

> يستأثر التنظيم والإدارة - اللذان مازالا من الموضوعات الحساسة التي يكتنفها سوء الفهم - حالياً بأولوية أعلى في الدوائر الإنمائية وقد شرعت بضع جهات مانحة ومؤسسات مالية ودولية في العمل مع بعض الاقتصادات الناشئة للمساعدة في تخفيض الفساد، وتشجيع إبداء المواطن رأيه، والمساواة بين الجنسين، والخضوع للمساءلة. وعندما أعلنت بلدان مجموعة الثماني في يوليو الماضي قرارها بمضاعفة المعونة إلى البلدان الأشد فقراً في أفريقيا وتخفيف عبء الديون عنها، كان الاهتمام بالتنظيم والإدارة قضية بارزة. وفي مايو ذكر التقرير المشترك الصادر من لجنة أفريقيا أن «حسن التنظيم والإدارة هو المفتاح .. وما لم تحدث تحسينات في القدرة، والخضوع للمساءلة، وتقليل الفساد، فإن الإصلاحات الأخرى لن يكون لها سوى أثر محدود».

لكن هل صحيح أن حسن التنظيم والإدارة والحد من الفساد ضروريان إلى هذه الدرجة بالنسبة للتنمية؟ لقد وفرت لنا طفرة البحوث التجريبية التي أجريت على مدى العقد الماضي، مقرونة بالدروس المستفادة من تجارب البلدان الخاصة، أساساً أكثر صلابة للحكم على تأثير التنظيم والإدارة على التنمية، ومدى فاعلية استراتيجيات تطويرها- أو عدم وجودها من الأساس. ورغم ذلك بقيت هناك قضايا ومناقشات تنتظر التسوية في مجتمع التنمية، ولا تتعلق فحسب بأهمية التنظيم والإدارة بل ايضاً بقدرة المؤسسات المالية الدولية على تطويرها. لذلك دعونا نعود إلى الأساسيات لكي نتناول بعض «الأساطير» السائدة حول التنظيم والإدارة والفساد.

الأسطورة 1 : التنظيم والإدارة ومكافحة الفساد صنوان. نحن نعرف التنظيم والإدارة بأنهما التقاليد والمؤسسات التي تمارس بها السلطة في بلد ما من أجل الصالح العام. ويشمل ذلك العملية التي يتم بموجبها اختيار القائمين على السلطة، ومراقبتهم، واستبدالهم (البعد السياسي)؛ وقدرة الحكومة على إدارة مواردها بفاعلية وتنفيذ سياسات سليمة (البعد الاقتصادي)؛ واحترام المواطنين والدولة لمؤسسات البلد (البعد المؤسسي). وعلى النقيض من ذلك، يعرف الفساد بصورة أضيق بأنه «إساءة استعمال المنصب العام لتحقيق كسب خاص».

الأسطورة 2: التنظيم والإدارة والفساد لا يمكن قياسها . حقيقة حيث لم تكن هناك بالفعل أية مقاييس قابلة للمقارنة دولياً للتنظيم والإدارة أو الفساد منذ أقل من 12 سنة مضت. إلا أن البنك الدولي وجهات أخرى قد سعت خلال الأعوام الأخيرة إلى علاج هذا . فقد قمنا في البنك الدولي ببناء مؤشرات كلية للتنظيم والإدارة تشمل أكثر من 200 بلد، بناء على أكثر من 350 متغيراً تم الحصول عليها من عشرات من المؤسسات على مستوى العالم. وتغطي مؤشراتنا الأبعاد الستة التالية للتنظيم والإدارة : القدرة على التعبير عن الرأي والخضوع للمساءلة، الاستقرار السياسي وغياب أعمال العنف والإرهاب الكبرى، فعالية الحكومة، الجودة التنظيمية، سيادة القانون، الحد من الفساد.

وبينما تمثل المؤشرات خطوة كبيرة إلى الأمام، الا أنه مازالت هناك تحديات أمام القياس. فهوامش الخطأ ليست طفيفة، والحذر مطلوب في تفسير النتائج- حيث ينبغي للمرء ألا يرتب البلدان ترتيباً دقيقا. الا أن هوامش الخطأ تلك قد انخفضت وصارت الآن أدنى بكثير عن أي مقياس فردي للفساد، أو التنظيم والإدارة أو مناخ الاستثمار. ونتيجة لذلك صارت مؤشرات البنك الدولي للتنظيم والإدارة تستخدم على المستوى العالمي في مراقبة الأداء، وإجراء التقييمات القطرية، ولأغراض البحث.

الاسطورة 3: المبالغة في تقدير قيمة أهمية التنظيم والإدارة ومكافحة الفساد. بفضل هذه التطورات وغيرها من القياس التجريبي، قام عدد من الباحثين بدراسة تأثير التنظيم والإدارة على التنمية. وأثبتت البحوث بوجه عام أن البلدان يمكن أن تحقق حصة كبيرة للغاية من «مكاسب التنمية» من وراء تحسين التنظيم والإدارة. وفي تقديرنا أن البلد الذي يطور أسلوب التنظيم والإدارة فيه من مستوى منخفض نسبياً إلى مستوى متوسط يمكنه أن يزيد دخل الفرد من سكانه بما يقرب من ثلاثة أمثال في الأجل الطويل، وبالمثل يمكنه تخفيض معدل وفيات الأطفال الرضع والأمية. ومثل هذا التحسن النسبي (بمقدار انحراف معياري واحد) يماثل، على سبيل المثال، صعوداً في ترتيبنا للبعد المتعلق «بالحد من الفساد» في قاعدة بياناتنا، الأمر الذي أدى إلى رفع غينيا الاستوائية إلى مستوى أوغندا، وأوغندا إلى مستوى ليتوانيا، وليتوانيا إلى مستوى البرتغال، والبرتغال إلى مستوى فنلندا.

كذلك يعتبر التنظيم والإدارة أمرا مهما بالنسبة لقدرة البلد على المنافسة ولتوزيع الدخل. وفي حالة الفساد، توحي الأبحاث بأنه يعادل فرض ضريبة كبرى على المستثمرين الأجانب. وفي كثير من البلدان النامية، يمثل الفساد «ضريبة تنازلية» على القطاع العائلي ايضاً ، حيث تدفع الأسر الأدنى دخلاً حصة غير متناسبة من دخلها في صورة رشاوى حتى تحصل على الخدمات العامة (مقارنة بالجماعات الأعلى دخلا). وغالباً ما ينتهي بها المطاف إلى الحصول على قدر أقل من هذه الخدمات بسبب الفساد. ويقدر المدى الذي تصل إليه المعاملات العالمية السنوية التي يشوبها الفساد تقريبا حسب التقديرات التقريبية بنحو تريليون دولار.

ومما يزيد الطين بلة، أن المشروعات الممولة من المعونة تنزع إلى الفشل في الظروف التي يكتنفها الفساد، والفساد يقوض الديمقراطيات الوليدة. والتنظيم والإدارة طبعاً ليسا هما الشيء الوحيد المهم بالنسبة للتنمية. فسياسات الاقتصاد الكلي، والتجارة والسياسات القطاعية مهمة أيضاً. ولكن إذا ساء التنظيم والإدارة فإن صنع القرار في مجالات أخرى يتعرض هو أيضا للخطر.

الاسطورة 4: التنظيم والإدارة ترف لا تقدر عليه سوى البلدان الغنية. يزعم البعض أن الارتباط بين التنظيم والإدارة والدخل لا يعني إن التنظيم والإدارة الأفضل يدعمان الدخول، بل أن العكس صحيح -فارتفاع الدخول يترجم تلقائياً إلى التنظيم والإدارة الأفضل. ورغم ذلك، فإن بحثنا لا يؤيد هذا الزعم. وهكذا يصبح من قبيل التضليل الإيحاء بأن الفساد يرجع إلى تدني الدخول، واختراع أساس منطقي لإغفال سوء التظيم والإدارة في البلدان الفقيرة. والحقيقة أن الشواهد تشير إلى أن السببية تسير في اتجاه أن التنظيم والإدارة الأفضل يؤديان إلى ارتفاع النمو الاقتصادي. وقد أثبت عدد من الاقتصادات الناشئة، بما فيها بلدان البلطيق، وبتسوانا، وشيلي، وسلوفينيا إمكانية بلوغ مستويات مرتفعة من التنظيم والإدارة دون الوصول مع هذا إلى مصاف الأمم الغنية.

الاسطور 5: إن تحسين مستوى التنظيم والإدارة يستغرق أجيالاً. في حين أنه صحيح أن المؤسسات غالبا لا تتغير إلا بصورة تدريجية، فقد حدث تحسن شديد في بعض البلدان خلال فترة وجيزة. وفي ذلك تحد للرأي القائل بأنه بينما قد يتدهور التنظيم والإدارة بسرعة، فإن التحسينات فيهما تكون دائماً بطيئة وتدريجية . فعلى سبيل المثال، طرأ تحسن بارز منذ 1996م في مؤشر «القدرة على التعبير عن الرأي والخضوع للمساءلة» في بلدان تتراوح بين البوسنة، وكرواتيا، وغانا إلى إندونيسيا، وصربيا، وسيراليون. كما أن التحسينات التي أبدتها بعض البلدان الأفريقية خلال فترة زمنية وجيزة تتحدى «المتشائمين من مستقبل أفريقيا». وحتى لو كان الامر كذلك، فإنه من الحكمة الإيمان بأنه قد حدث تحسن على مستوى العالم، في مجمل التنظيم والإدارة خلال هذه الفترة- وحدوث تدهور حاد فيها في عدد من البلدان منها ساحل العاج، ونيبال، وزمبابوى.

الاسطورة 6: إن الجهات المانحة تستطيع إقامة مشروعات معزولة ومحصنة داخل بلدان وقطاعات شديدة الفساد. مع إمكان استثناء بعض مشروعات المعونة الإنسانية، فإن الفكرة القائلة بإمكانية قيام مجتمع المعونة بعزل وتحصين المشروعات عن بيئة عامة فاسدة لا تدعمها الشواهد. وتشير البيانات إلى أنه في غياب نهج نظامي للتنظيم والإدارة والحريات المدنية وسيادة القانون، والسيطرة على الفساد، تقل احتمالات نجاح المشروعات التي تمولها المعونة بصورة كبيرة.

الاسطورة 7: حاربوا الفساد بمحاربة الفساد. من المغالطات التي يروجها البعض في مجال مكافحة الفساد، ويروجها أحياناً المجتمع الدولي، أنه يجب «محاربة الفساد بمحاربة الفساد»- من خلال حملة أخرى ضد الفساد، وإنشاء مزيد من «اللجان» والوكالات المعنية بالأخلاقيات، ومواصلة صياغة مشروعات القوانين والمراسيم، ومواثيق الشرف الجديدة بلا توقف إجمالا، تبين أن هذه المبادرات لم تحدث سوى تأثير ضئيل وغالبا ما تكون ذرائع سياسية للتصدي للضغوط لفعل شيء ما بشأن الفساد، وكبديل للحاجة إلى إصلاحات جوهرية ومنهجية للتنظيم والإدارة.

الاسطورة 8: إن الجاني هو القطاع العام في البلدان النامية. من المغالطات الشائعة التركيز فقط على نقاط ضعف القطاع العام. لكن الواقع أكثر تعقيداً، حيث إن المصالح الخاصة القوية تمارس عادة نفوذا لا مبرر له في تشكيل السياسة العامة، والمؤسسات، وتشريعات الدولة. وفي الحالات القصوى، تستحوذ «القلة الحاكمة» على مؤسسات الدولة. كما أن كثيراً من الشركات متعددة الجنسيات مازالت تقدم الرشاوى بالخارج، مقوضة بذلك التنظيم والإدارة في الاقتصادات الناشئة. كما توجد أيضاً أوجه ضعف في القطاع غير الحكومي. وأكثر من ذلك، أن التدخلات التقليدية في إدارة القطاع العام قد فشلت بسبب تركيزها على «العلاجات» التكنوقراطية، وهو غالباً ما يتم من خلال قيام المساعدات الفنية باستيراد المعدات والأجهزة، والقوالب التنظيمية، والخبراء من البلدان الغنية.

الاسطورة 9: قليل هو ما تقدر البلدان أن تفعله من أجل تحسين التنظيم والإدارة. بالنظر إلى القائمة الطويلة للتدخلات التي لم تنجح، وكذلك الدور الذي غالباً ما يعزى إلى العوامل التاريخية والثقافية في تفسير التنظيم والإدارة، فإنه من السهل الوقوع في معسكر المتشائمين. وذلك خطأ، للأسباب التالية: أولاًَ لأن العوامل التاريخية والثقافية أبعد ما تكون عن الجبرية- انظر مثلا إلى المسارات المتباعدة -من حيث التنظيم والإدارة- التي تسلكها بلدان متجاورة في المخروط الجنوبي من أمريكا اللاتينية، وشبه الجزيرة الكورية، والاقتصادات التي تمر بمرحلة انتقال في شرقي أوروبا وجنوبي أفريقيا. ثانياً، هناك استراتيجيات تبشر بالخير بوجه خاص.

إن اقتران التقدم في سبيل تحسين القدرة على التعبير عن الرأي والمشاركة - بما في ذلك من خلال حرية التعبير، وحقوق المرأة- بالإصلاحات المتعلقة بالشفافية (انظر الإطار) يمكن أن يكون فعالا بصورة خاصة.

الاسطورة 10:: ليس في مقدور المؤسسات المالية الدولية أن تفعل الكثير. يتشكك بعض خبراء التنمية بشأن قدرة المؤسسات المالية الدولية على مساعدة البلدان في تحسين مستوى التنظيم والإدارة بها إما بسبب الاقتناع بأن «الكلي أكثر أهمية»، أو بسبب اعتقاد خاطئ «بالجبرية» التاريخية، أو بسبب رأي مفاده أن التدخلات اللازمة لتحسين التنظيم والإدارة لها حساسية سياسية، وبذلك يصعب على الأجانب تشجيعها. ولا ريب أن هناك مجالات تخرج عن التفويض الممنوح للمؤسسات المالية الدولية مثل تشجيع الانتخابات النزيهة متعددة الأحزاب.

الا أن هناك مبادرات لتشجيع الشفافية، وحرية المعلومات واستقلال وسائل الإعلام، والبرامج القائمة على المشاركة لمحاربة الفساد التي تقودها البلدان، والمساواة بين الجنسين- وكلها لم تحظ الا بتركيز متدن في غمار الحرب ضد الفساد- وهذه المبادرات تقع في حدود قدرة المؤسسات المالية والجهات المانحة على فعل شيء بشأنها. وهذا المبادرات، اذا ما اكتملت بدعم الإصلاح المستهدف للمؤسسات التي تتسم بضعف شديد (والتي غالباً ما تشمل مؤسسات المشتريات، أو الضرائب، أو الجمارك، أو الهيئات القضائية)، فإنها سوف تبشر بخير وفير.

إن تحدي التنظيم والإدارة ومكافحة الفساد الذي يواجه العالم اليوم إنما يقيم حجة قوية ضد طريقة العمل «بالشكل المعتاد». والمطلوب هو نهج أكثر جسارة، ومسئولية جماعية على المستوى العالمي.

وينبغي على عالم الأغنياء ألا يركن إلى تقديم مساعداته، ووعوده بتحرير التجارة، بل عليه أيضاً أن يكون قائدا بالقدوة. وعلى بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي أن تصادق وتنفذ بصورة فعالة اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2003، وأن تتخذ خطوات (كما شرعت سويسرا في القيام به) لإعادة الأموال التي سلبها وخبأها مسئولون فاسدون في الخارج. وعلى الشركات العابرة للقوميات أن تمتنع عن الرشوة، وأن تدعم تحسينات ممارسات التنظيم والإدارة في البلدان المضيفة لها. وفيما يتعلق بالمؤسسات المالية الدولية والجهات المانحة، فلا حاجة لها في إجهاد نفسها في الجدل حول مسائل الانتقائية والفاعلية في برامج المعونة، وربط قراراتها الخاصة بالمعونة في حدود منشور التنظيم والإدارة، ومساعدة البلدان في بناء قدراتها حتى تستوعب المساعدات بشكل فعال.

والمفتاح لذلك هو تحسين الشفافية. وأخيرا ينبغي على البلدان ذاتها أن تأخذ زمام المبادرة في تحسين التنظيم والإدارة.

مدير البرامج العالمية لدى معهد البنك الدولي.

عن مجلة «التمويل والتنمية»

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى