بقع من الدم.. لبقع من الأرض

> حسن علي كندش:

>
حسن علي كندش
حسن علي كندش
تتنازعنا شهوات الإثراء من الأرض.. حتى أنها لم تعد مكاناً للعيش.. بل أضحت مصدراً للإثراء .. واتجهت الأنظار والأقدام والأيدي والأفكار نحو (البقع والأحواش).. بالسطو تارة وبالاستقوار تارة أخرى.. أو بالبحث عن أملاك.. أو باستلاب حقوق.. وبرز النزاع.. وانتصبت قضية الأرض لدينا كمشكلة مثل كرة الثلج تتدحرج وتكبر حتى كادت أن تدهسنا.. لنصحو ذات يوم على فاجعة.. أنه ليس لدينا مخططات عمرانية متكاملة أو حديثة مثل العالم من حولنا.. فلم نعد نبني مدناً لتكون أوطاناً.. بقدر ما أصبحنا نعيد نصب (مضارب القبيلة) وكأننا موجودون صدفة.. أو ربما بشكل مؤقت وسنرحل يوماً ما إلى الماء والكلأ في مكان آخر.. فعقليات مليئة بالزيف والتزوير والتدليس والسطو لا يمكن أن تنتج لنا مخططاً واحداً لمدينة سكنية حديثة.. أو حتى حي سكني.. أو على الأقل شارع مثل شارع مدرم بالمعلا.. انظروا حولنا إلى أي مدن ننتمي؟! فمن زمن ونحن نبحث عن مدن تؤوينا .. تريحنا.. تسكننا قبل أن نسكنها.. من زمن ونحن نحلم بمدن تمدنا بالهواء النقي.. ومساحات من الفرح لطفولة محرومة في الماضي.. نأمل تقديمها لطفولة آتية.. من زمن ونحن نحلم بمدن تمنحنا الأمان.. لا الخوف.. مدن تسقينا الانتماء شراباً من الوريد.. مدن تدمع عيناك دماً إذا ما اشتقت إليها في غربة.. من زمن - ويبدو أنه ضاع منا- ونحن نحلم بمدن لنا رائحتها ولها رائحتنا لأن جلدنا معجون بترابها.. مدن نتذوقها في كل قبلة أكانت لطفل أم لحبيبة.. ونسمع فيها موسيقى وألحاناً ترنو بها إلى عشق وخيال يسمو بك إلى الإبداع.. مدن تحلم أن ترى فيها خصلات شعر تتطاير مع نسمة هواء.. وأنامل رفيعة وعيوناً براقة تلوح بالسلام.. مدن تملأ عينيك أملا ونظافة.. وتسندك إذا ما تعثرت.. مدن تهديك في ليالي الشتاء الطويلة نجوماً لتضيء دربك.. وفي نهار الصيف تمنحك شمساً ساطعة لتحرق ما قد علق بك من أوجاع ومآس.. إنها أضغاث أحلام تفوق منها على مدن من صراخ وعويل وبطش وعشوائية.. وصراع على مساحات أرض تبدو أنها ليست للعمران الإنساني.. مدن يخيل إليك أنها تنتظر الموت بلا مقابر.. أكثر مما ترنو للحياة.

فلقد تقاطرنا أفراداً وجماعات بل وقطعان بحلم الثراء نحو الأرض في صراع مخيف يدفع فيه كل منا الآخر إلى الأمن والنيابة والمحاكم نتداعى كلٌ ضد الآخر.. حتى في إطار الأسرة الواحدة.. وامتلأنا بالعدوانية حتى تجاه أنفسنا.. وانسلت من بين أيدينا وأصابعنا بقع الدم تشوه علاقاتنا الاجتماعية والإنسانية وحتى الوطنية.. لماذا ترى كل هذا؟! هل انسدت أمامنا أبواب الرزق؟ هل لم نعد قادرين على أداء أي عمل؟! هل حلم الثراء بدون عمل أصبح نموذجاً اجتماعياً؟! هل دُفنت القناعة في آبار مهجورة بعد أن تعرضت لنزيف نفسي مريع.. هل ضاقت علينا الأرض بما رحبت؟! لقد استنزفنا أنفسنا في قضية الأرض بصراع مثل دوامة ندور فيها ليل نهار.. كل منا يعد الخطط للانقضاض على أرض ما يراها مناسبة.. وتوارت أجهزة الدولة القوية وانكفأ ملاك الأرض كضحايا.. وأطلت برأسها ثعابين الجحور تتلوى.. وتلتف على مساحة هنا ومسـاحة هنـاك للمضاربة والثراء والعبث.

إن الأرض لا يمكن أن تكون إلا ملكاً للدولة كحق عام، وأملاكاً لمواطنين كملكية خاصة.. وبالتالي كان يفترض أن تعترف الدولة بأملاك مواطنيها أولاً.. ليسهل حصر أملاكها.. وكان يجب أولاً تحديد خارطة الملكية العامة والخاصة.. لكن ما يحصل شيء فظيع وتحول إلى ظلم.. من خلال عدم الاعتراف بملكية بعض الجماعات السكانية حتى ولو كانت تاريخية ومن ثم السطو عليها وتحويل ملكيتها.. هذا بالإضافة إلى نهب أملاك الدولة بالاستقواء والتدليس ومن ثم تحويلها إلى ملكية خاصة لمن لا يستحق.. للإثراء.

أصبحت مشكلة الأرض لدينا تعيد إنتاج نفسها بمئات الأشكال والألوان.. ولا حل أحياناً بتعمد.. وأحياناً أخرى بعدم القدرة.. عشرات اللجان.. أجهزة متنوعة.. مئات القرارات والتوصيات.. توجيهات لا حصر لها.. تراكم مفجع من هذا وذاك.. لا يؤدي في النهاية إلا إلى إنتاج مشاكل جديدة. وهكذا حتى أن المثير للدهشة أن صرف الأراضي موقف.. ومع ذلك يتم البناء العشوائي في كل مكان وبشكل فظيع.. وقفز الكثيرون من نصابي الأراضي إلى هرم المجتمع.. وتباهوا وداسوا على القيم الأخلاقية.. وأصبحوا حديثي نعمة لا يأبهون لشيء.. وفسح لهم المجال ليتربعوا على عرش الزيف والغش ويعيدوا بالتالي إنتاجه.

المشكلة متوارثة.. وضاربة في الجذور وفي عمق تراثنا الثقافي والاجتماعي.. لأنها مسألة ملكية وحقوق متوقفة وموقوفة دون تحديد.. أو اعتراف.. ولكل زمن آلياته وأساليبه في تحديد الملكية والاعتراف بالحقوق.. ليس فقط في ملكية الأرض.. ولكن ذلك أيضاً يسحب نفسه إلى حقوق أخرى مثل حق التعبير.. وحق الآخر في الملكية الفكرية.. والمادية.. ومن هنا أسقطنا تارة بالعنف وتارة بالغباء قدسية الملكية.. والحقوق.. واستبدلناهما بالسطو والتدليس.. واختلط بالتالي هذا بذاك في أتون نزاع ينتزع فيه كل منا ما للآخر من حق.. في كثير من الآحيان بالاستقواء.

إن كثيراً من التجمعات السكانية في عدن مثلاً ولحج.. ضاربة جذورها التاريخية في عمق هذه الأرض وبالتالي بحكم الوجود.. والأولوية.. وحقوق المواطنة.. والقانون والدستور وأيضاً الأعراف والقانون الإنساني والإلهي.. لا بد أن تكون لها حقوق وممتلكات.. بل حتما.. فكيف إذن يراد تجريدها من هذه الحقوق والممتلكات عنوة.. ثم يعاد تمليكها لآخرين؟! وهذا لا يحدث إلا في مكانين في العالم فقط.

إن من أنتج مشكلة الأرض لا يمكن أن يحلها.. فقد أضحت أكبر من حجمنا وإمكاناتنا ولم نعد مؤهلين للحل.. بل للمزيد من الخراب.. لذا لابد من جهة محايدة.. أو جهاز عالمي متخصص.. كشركة مثلاً تعيد خارطة الأرض لدينا وتحدد الحقوق والملكية للدولة والمواطنين من خلال معايير علمية سليمة.. وبالمناسبة تخطط لنا أيضاً بعض مدن إنسانية وبعض أحياء سكنية حيث فشلنا.. عدا ذلك سيكون مجرد عبث أو إعادة إنتاج المشاكل من خلال أجهزة مهترئة. وبالتالي مزيد من الظلم والدم.. وحينها لن تكون لدينا مدن نسكنها بل مقابر نتوارى فيها هروباً من الزمن والعالم.. كما لن يكون لدينا أحياء سكنية نتباهى بها. بل سنبحث عن أرض تؤوينا بعد نتائج نزاع دموي.. كما لن تكون لدينا مساحات للتنفس والترفيه.. بل أحواش للاستحواذ والثراء.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى