آن أوان طفرة بحجم الوحدة

> فاروق لقمان:

>
فاروق لقمان
فاروق لقمان
بعد انتهاء الحرب الانفصالية التي أشعلها الحزب الحاكم آنئذ في الجنوب بالرغم من الوحدة، قمت بزيارة إلى عدن لأول مرة منذ الاستقلال تحدثت خلالها في ردهة فندق عدن إلى مندوب جريدة «الأيام» الزاهرة عن انطباعاتي بعد ربع قرن من الغياب القسري أسوة بمليون جنوبي آخر راحوا ضحايا الحكم الشمولي الجائر، وبالذات رأيي في قيادة الرئيس علي عبدالله صالح. فقلت إنه يحق للرئيس أن يعتز كثيراً إن شاء بما صنعه في اليمن كلها في خضم الصعوبات والتحديات التي واجهها.

ولعله أول زعيم يمني في التاريخ استطاع أن يحقق الوحدة الشاملة من أقاصي سقطرى إلى حرض ومن حدود سلطنة عمان إلى البحر الأحمر، بدون حرب كما حدث في بلدان أخرى منها الولايات المتحدة بقيادة جورج واشنطن وإيطاليا بزعامة غاريبالدي وألمانيا في عهد بسمارك، وحتى بريطانيا عند ضمها لأيرلندا وقبلها اسكتلندا.

وأهم من ذلك أنه استطاع أن يوحد ما كان يسمى باليمنين - الجنوبي الذي اعتمد الماركسية المتطرفة بظلمها وظلامها، والشمالي المتعقل والمعتدل الذي اعتمد الاقتصاد الحر والنظام البرلماني مهما كانت نقائصه كما قال الرئيس علي عبدالله صالح ذاته.

تحقق الاتحاد أو إعادة توحيد التراب اليمني عام 1990م بعد مئات السنين من التفكك. لكن الجانب الماركسي كان قد قبل أو أنه أصر على الوحدة لأنها كانت بالنسبة له طوق نجاة عند انهيار سنده الرئيسي الاتحاد السوفياتي وسقوط الشيوعية من أسسها ومقتل بعض كبار رموزها. لذلك فإن الفريق الذي وصل من عدن إلى صنعاء كان يتحين الفرص ليس فقط لتمزيق الوحدة بعد حين بل لتقويض النظام في الشمال في الوقت نفسه.

لكنه لم يحسب حساباً دقيقاً لحنكة الرئيس علي عبدالله صالح، ولم يكن يتوقع يقظته الدائمة وأنه ربما أدرى بما يدور في خلد الفريق القادم ويستعد لأول إشارة هجومية بواسطة القوات المرابطة في الشمال والخلايا المتعددة المنتشرة في صالونات الحلاقة ومفارش الخضار والمعاوز.

لذلك حقق الرئيس إنجازه التاريخي الثاني، بإنقاذ الوحدة بدحر التمرد الانفصالي ليس فقط بواسطة القوات الشمالية الأصلية بل أيضاً بالتحالف الوثيق مع القوات الجنوبية نفسها والجماهير الجنوبية من شبوة إلى حضرموت. وهذه الأخيرة أذهلت العالم أجمع - وكنت على اطلاع دائم بكل ما ينشر حينها - عندما رحبت بقوات الشرعية واحتضنتها بدون حاجة لإطلاق رصاصة واحدة حتى قيل إن القتيل الوحيد فيها وهو وزير إنما سقط برصاصة طائشة.

هذان إنجازان يحسبان للرئيس علي عبدالله صالح، يعادلان بعض أهم المنجزات التاريخية في أي زمان ومكان وليست هذه مجرد مدائح زائفة لأنني قلتها من قبل وسأظل أكررها إلى ما شاء الله.

في هذه الأثناء كان سيادته قد اصطدم بقوى تطرف عقائدي تود تدمير البنية اليمنية، وتمردات قبلية متعددة لا تزال تقض المضاجع، وفساد إداري مروع واستبداد بعض العسكر بالأهالي وبسط أيديهم على حقوق الناس والمال العام، انتصر فيها أحياناً واصطبر أحياناً أخرى مع أن سواه من الزعماء كانوا أمام أمرين إما الاستسلام والمغادرة بالطائرة الجاهزة دائماً والمليئة بصناديق العملات الصعبة، أو اللجوء إلى أقصى حدود القمع والتنكيل بكل من أساء وتمرد وهدد الأمن والسلام. فإذا استعرض أي مؤرخ قدير حياة هذا القائد أو أراد كتابة سيرته فلا بد أن يقف طويلاً عند فداحة التحديات التي واجهها الرجل الذي امتطى فرساً جامحاً وأمسك بلجامه بقوة هائلة وعزيمة لا تلين لأنه كان يفضل الموت على السقوط من صهوته. ولو كان مركبه ليثاً هائجاً لأخضعه أو على الأقل ألان عريكته كما فعل حتى اليوم بالتي هي أحسن فبادله شعبه الحب وأغدق عليه مودته.

لذلك كله وأكثر تابعت باهتمام بالغ مسيرة زعيم لا أعرفه شخصياً حتى أميل إلى الإعجاب به كما فعلت بآخرين من جواهر لال نهرو إلى ابنته أنديرا إلى حفيده راجيف، وعشرات الآخرين الذين التقيتهم من رئيس بلاد الشاي سريلانكا الحزين جوارديني، وهو يكاد يبكي من فرط أساه على بلاده التي مزقتها الحرب الأهلية، إلى مأمون عبدالقيوم، وهو يتحدث عن المصير المؤلم الذي ينتظر جزر المالديف. فلو ارتفعت حرارة الكرة الأرضية درجتين لغرقت الدولة بأسرها. وعشرات الآخرين.

والآن ماذا؟ أمامه سبع سنوات أخرى لقيادة اليمن وهي في وضع أفضل بكثير مما عرفها الناس قبل الوحدة بعدما خسروا كل ما كانوا بنوه وامتلكوه بعرق الجبين في صيف عدن القائظ عبر عشرات السنين. ولا زلت أحد الألوف الذين يتفرجون على مالهم وحلالهم ولا يقدرون على الاقتراب منه.

بالرغم من كل ما قيل ويقال فإن الجنوب اليوم ولو نسبياً أكثر استقراراً من ذي قبل، أكثر عمراناً ونشاطاً اقتصادياً، أمنه مستتب إلى حد كبير، شكواه أقل مرارة مما كانت في عهد الاغتيالات الحكومية وسحل العلماء ومن أسموهم بالثورة المضادة. القضاء رغم معايبه أشمل مما كان وإذا وقع إجهاض قضائي أمكن اللجوء إلى السلطة العليا أو حتى إلى القمة نفسها إذا لزم الأمر. (ما هي محكمة مجلس اللوردات البريطانية إلا استجارة بالقمة من جور محاكم السفوح). المحسوبية والرشى والاحتكار لا يمكن أن تزول نهائياً حتى ولو انتقلنا إلى القمر والمريخ، كما أشار العالم ستيفن هوكنـز قبل شهر، في نهاية القرن الحالي. لكنها مع ذلك أهون.

ومع ذلك فالدنيا بخير في ظل الوحدة ورئاسة القائد.

ولعل الرئيس علي الذي سيعاد انتخابه بدون شك سيكرس السنوات السبع القادمة لتأسيس قواعد التقدم الاقتصادي المأمول وتقليص العيوب والنقائص التي أساءت إلى سمعة اليمن في الخارج ونغصت حياة الغالبية الساحقة في الداخل.

فالوحدة ترسخت بالكامل والأمن استتب - نسبياً - والحريات الفردية والعامة باتت حقائق لا جدال فيها كما قلت وكتبت - أحدثها هاتفياً مع رئيس تحرير هذه الجريدة الرائعة - وسأظل أتابع جهود الرئيس المباركة إن شاء الله لتطبيق طفرة مفصلية شاملة بحجم الوحدة وحجم إنقاذها فهو بدون رياء أعظم من قاد اليمن منذ أمد بعيد للغاية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى