إشكاليات تتطلب إعمال العقل العربي

> «الأيام» احمد محمد سيف:

> المشكلة بالنسبة للعالم العربي، ليست في الإقرار بالحاجة إلى تغيير الأوضاع القائمة وإحداث نهضة شاملة، ولكن الخلاف هو حول مرجعيات ووسائل عملية التغيير، وحول مضامين إعادة البناء، وهل يمكن أن يتخذ من النموذج الأمريكي المعبر عن الرأسمالية بصورتها المتوحشة والمجسدة للداروينية الاجتماعية مقياساً لعملية إعادة البناء؟ أم نموذج دولة الرفاه التي سادت في الدول المتقدمة بعد الحرب العالمية الثانية؟ أم الرأسمالية أو العولمة المؤسسة؟ أم يفترض ابتكار نماذج تنموية وسياسية خاصة متميزة وفاعلة، بالاستفادة من إيجابيات مسيرة تطور الرأسمالية، والمسيرة الإنسانية بصورة عامة، والميزات النسبية مع مراعاة لمستوى التطور القائم، ومعطيات الواقع المعاش بخصوصياته بمعناها الإيجابي؟

ومن أين يفترض أن تستمد عملية التغيير وإعادة البناء المطلوبة مشروعيتها؟ هل من خلال المشروع الأمريكي بمضامينه المتوحشة وأبعاده الإمبراطورية والاستعمارية ؟ أم من خلال حاجات الداخل الضرورية، والمتقاطعة مع الحاجات الخارجية، والاتجاهات الموضوعية للتطور بأبعادها العالمية والمستقبلية ومضامينها التقدمية والإنسانية؟

وكيف يمكن فهم جدلية العلاقة بين الداخل والخارج؟

هل يفترض إلغاء أو تهميش دور الداخل، وإحلال الخارج محله؟ أم يفترض من الخارج أن يعوض عن ضعف الداخل الموضوعي والذاتي، ولكن من خلال التفاعل الإيجابي المتبادل وفي ظروف وشروط متكافئة؟ وهل يمكن للداخل إذا لم يمتلك أجندة خاصة مؤصلة معرفياً أن يستفيد بصورة بناءة من الخارج؟

الصحفي اللبناني سعيد سلام وصف جدلية العلاقة بين الداخل والخارج على النحو التالي: الخارج يلعب دور المدفعية الثقيلة في المعركة، أي أنه يشكل غطاء للتحرك والهجوم، ولكنه لا يحقق سيطرة أو يحرز نصراً، إذا لم يكن هناك مشاة ومعارك على الأرض. وهنا يكمن دور الداخل.

هذا التوصيف فيه قدر كبير من الصحة، ولكن تظل هناك أسئلة قائمة حول: من يحدد أجندة المعركة؟ ومن يقودها؟ وماذا يقصد بالخارج؟

هل المقصود بالخارج الولايات المتحدة الأمريكية؟ أم تحالف الراغبين؟ أم المقصود بالخارج منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد والبنك الدوليان أي المنظمات الاقتصادية الدولية متعددة الأطراف؟ أم الشركات متعددة الجنسية؟ أو الدول الثماني الصناعية الكبرى؟

أم المقصود بالخارج الأمم المتحدة، والشرعية الدولية النافذة؟ أو الرأي العام العالمي، والمنظمات العالمية غير الحكومية، والحركات العالمية المناهضة للعولمة بصورتها المتوحشة التنميطية؟ أم المقصود بالخارج كل هذه الأطراف والقوى والمرجعيات مجتمعة، أو بعضها؟ أم المطلوب تعامل انتقائي حسب الحاجة والظروف المعاشة؟

وبالإضافة إلى هذه الأسئلة والإشكاليات، هناك مجموعة من التحديات والاستحقاقات تتطلب أيضاً إعمال العقل العربي، ومنها:

أ. التعارض بين حاجات المنطقة إلى ابتكار نماذج تنموية متميزة وفاعلة، بالارتباط بمنجزات الثورة التكنولوجية المعاصرة، وفي إطار اقتصاد السوق بمضامينه وأبعاده الاجتماعية والإنسانية، وبين الشرق الأوسط الكبير المحكوم بالليبرالية الجديدة المجسدة لحرية السوق المطلقة، والتي فشلت في تقديم بديل تنموي ناجح ومستديم، ونتج عن تطبيقاتها المزيد من تلويث للبيئة، واتساع دائرة الفقر في العالم، وتوسيع الهوة بين الفقراء والأغنياء، وتكون ما يسمى بمجتمع الخمس، الذي يعني أن الفقراء أصبحوا يشكلون 80% من سكان العالم.

ب- كيفية تضييق فارق التطور المعرفي والتقني مع العالم الخارجي، الذي أحدثته الثورة الصناعية الأولى (1760-1840) وعمقته ثورة المعلومات والاتصالات (الثورة الصناعية الثانية)، ويزداد اتساعاً يوماً إثر يوم وبوتائر متسارعة ومتصاعدة، وخاصة في ظل اتفاقية حقوق الملكية الفكرية التي تُعقّد انتقال التكنولوجيا إلى البلدان النامية.

جـ - استحقاق بناء الدولة- الأمة أو الدولة الوطنية الحديثة، وبروز الحاجة في الوقت نفسه إلى مرجعيات سياسية فوق قومية، تكون قادرة على الارتقاء إلى مستوى التكامل الاقتصادي القاري، أو الإقليمي فوق القومي، ونشاط الشركات متعددة الجنسية، والمنظمات الاقتصادية الدولية متعددة الأطراف، والتي لا تحتكم للقانون الدولي والشرعية الدولية النافذة.

د - الحاجة الملحة للتحول الديمقراطي على الصعيد الوطني، وابتكار نماذج ديمقراطية خاصة وفاعلة، في ظل تكريس الشمولية والهيمنة في العلاقات الدولية، وفي نشاط المنظمات الاقتصادية الدولية متعددة الأطراف، والتراجع العالمي عن الديمقراطية الاجتماعية، وما تشهده الديمقراطيات القومية الناضجة من انتهاكات للحريات والحقوق المدنية، ومن ثم غياب النموذج القدوة بالمعنى الإيجابي، إضافة إلى ما تشهده العلاقة الدولية من تراجع عن حق تقرير المصير، والعودة لمنطق الهيمنة والاستعمار.

هـ - هيمنة الأجندة الأمريكية على المنطقة والعالم، والتي تخدم المصالح الأمريكية الخاصة، والضيقة، وتعزز من مكانتها ووضعها التنافسي، على حساب الحاجات الموضوعية الضرورية لشعوب المنطقة والعالم.

وتكرس في الوقت نفسه عسكرة وتنميط العولمة، والأحادية القطبية، على حساب القانون الدولي والشرعية الدولية النافذة، وبناء عالم متعدد الأقطاب، وتنويع أنماط التنمية في العالم.

و- العناصر الرئيسية المؤثرة في مجريات أحداث اليوم، هي:

1- القطبية الأحادية.

2- ثورة المعلومات والاتصالات.

3- العولمة.

وبدلاً من التعاطي الخلاق والمبدع مع الاستحقاق والتحديات المترتبة على هذه المعطيات والمتغيرات نجد أن هناك من رفع شعار:

انتهاء عصر الأيديولوجيات، وانتقاء الحاجة للأيديولوجيا بالمطلق.

وهناك من تعامل معها وكأنها لا تعنيه، وظل متمسكاً بأنماط التفكير القديمة التي كانت نتاج عصر الصناعة الأول، ومرحلة الحرب الباردة، بل أن هناك في عالمنا العربي من لم يتخط بعد تفكير عصر الزراعة، وهناك من انحاز بالمطلق إلى الليبرالية الجديدة، وتعامل معها باعتبارها تمثل نهاية التاريخ، وهناك من فضل العودة إلى الماضي كبديل عن الحاضر والمستقبل.

فهل فعلاً انتهت أو انتفت الحاجة للأيديولوجيا بشكل عام، أم فقط للأيديولوجيات الرأسمالية والاشتراكية بصيغتها العملية والتي ارتبطت بالثورة الصناعية الأولى، وأن التقدم العلمي والتكنولوجي المترتب على الثورة المعلوماتية يقتضي قراءات معرفية جديدة للواقع المعاصر، وإنتاجاً معرفياً وإيديولوجياً يواكبه؟

وهل تمثل الليبرالية هنا التاريخ، كما يدعي المفكر الأمريكي فوكوياما؟ أم أنها تمثل نهاية الحداثة، كما يرى بعض المفكرين الأوروبيين؟

وهل نحن أمام انتقال من الأيديولوجيا إلى التعددية، كما يعنون البعض، أم أن التعددية هي تعبير عن قراءات أيديولوجية متعددة, للواقع؟

هذه الإشكاليات والتحديات تتطلب إعمال العقل العربي، وإنتاجاً معرفياً وإيديولوجياً معاصراً، وليس إنجازات سريعة وسطحية، أو إجابات قاطعة وجامدة أو مواقف هروبية ومعبرة عن حالة عجز، وعدم قدرة على التطور والمواكبة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى