«الأيام» تستطلع معاناة عزلة اليوسفين قبيطة .. طبيعة قاسية وجفاف سرمدي وعيش متفاوت

> «الأيام» أنيس منصور حميدة:

>
معهد معلمي الهجر اصبح خاويا على عروشه
معهد معلمي الهجر اصبح خاويا على عروشه
على قمم جبال الجاح ومرتفعات النبي شعيب ووادي البير وهضاب رياش عزلة اليوسفين يعشش البؤس والألم منذ زمن طويل، يكتوي الساكنون بسموم الأحزان ويتذوقون علقم الحرمان. ستون ألف نسمة هم قاطنو عزلة اليوسفين، كثيرة السكان قليلة الخدمات عزيزة المطلب جميلة المنظر، منجزات التجار والمحسنين تساوي ضعف خدمات السلطة، مناظر تسر الخاطر ومشاهد تدمي لها القلوب دما ودموعاً، أسئلة مريرة تتردد صداها : إلى متى ستظل عزلتنا معزولة عن هبات ومناقصات ومشاريع الدولة، إلى متى سيظل مجلسنا المحلي يمطرنا بالمسكنات؟ منازل عالقة في الجبال لكنها في حزن عميق ووجع مؤلم فحكايات العجائز وأحاديث الشباب ومسميات القرى والنزوح السكاني والطبيعة القاسية عنوانين مؤلمة تدل على انتظار الكارثة عما قريب اذا لم يتلافها المسؤولون .«الأيام» خرجت بحصيلة استطلاعية كافية لنقل الصور المؤلمة والصيحات الهادفة إلى ذوي الاختصاص فإلى التفاصيل:

الطريق إلى اليوسفين
الطريق إلى مناطق ومراكز اليوسفين بالغة الصعوبة وأربع ساعات تزيد أو تنقص هي زمن قطع المسافة من عاصمة المديرية المؤقتة كرش إلى قرى ومناطق اليوسفين تتفرع حسب الاتجاهات الفرعية ومنها إلى جبال تسمى الجاح وأخرى تسمى مرتفعات النبي شعيب والمغنية حميض فالطريق ضيقة وملتوية منحوتة وسط الصخور تتوقف السيارة عدة مرات في المنعطفات وهي تحاول تسلق بعض الصحرات فيتقافز من عليها خوفاً من ان تهوي بهم الى الوادي فيما السائق مغامر بحياته وبالذات طريق نجد الحيرة الذي يجعلك تدعو الله كثيرا وتصل الى مرحلة اليأس من الوصول بالسلامة، مغامرات وسط الشعاب والتلال أشبه بكثير من أفلام الكرتون. قال توفيق علي عبدالصمد: «في موسم الامطار يأتي السيل فيجرف الطريق ويظل أبناء مناطق المقابل والفوز والسلام معزولين عن المدن الرئيسية لعدة أيام حتى يتعاون الاهالي على اصلاح ما أفسدته السيول» بهذه العبارة المختصرة اختتم توفيق حديثه. أما طريق ظمران المغنية فقد وجدنا معدات الشق تدك الجبال وتنخر في الصخر، جاوزت نجد ظمران مقمسة بين طريق الجليحة وطريق الكعبين اندهشنا كثيراً بعد المرور بنجد السلام كأنما انتقلنا إلى عالم آخر حيث استقبلنا عبدالكافي عبداللطيف بتواضع جم وكرم حاتمي وأحاط بناءمجموعة من الأشخاص تعرف في تقاسيم وجوهم هول المأساة. قال عبدالكافي عن طريق ظمران المغنية:«هذه الطريق يتم تنفيذها عن طريق الأشغال العسكرية والعمل جار بوتيرة عالية وتنسيق وسوف تعبد بالاسفلت، هي بالنسبة لنا منجز عظيم فرحنا به كثيراً تنازل المواطنون عن أراضيهم حباً للطريق وقد أتت بعد جهد متواصل ومعاناة طالت مدتها، نشكر جميع المخلصين الذين بذلوا وضحوا لتوصيل وشق الطريق» ثم أشار عبدالكافي بيده مع ابتسامة عميقة «انظر صور معدات الشق وكمبريشنات التفتيت وهي تتجه صوب الجليحة» اعترض الحاج محمد عبدالوهاب مفلح سائق سيارة تويوتا قائلاً ان السوق بعيد عنهم والمواصلات أجورها مرتفعة وهناك قرى صغيرة متفرقة لا تصل إليها السيارات فيضطر الناس لقضاء حوائجهم إلى المشي على الأقدام مسافات طويلة صعوداً ونزولاً على جبال مرتفعة ويستغرق ذلك وقتاً طويلاً «باختصار مناطقنا بعيدة قليلاً ومحرومة مهملة ونناشد رئيس الجمهورية ان يزورنا ولو مرة واحدة ليرى حالنا عن قرب».

فقر وجفاف
في مراكز عيريم والحنكة ودياش الكعبين رأينا دائرة الفقر عملت على وجود طبقتين: أثرياء ترتفع أرصدتهم يوماً بعد يوم وقد هاجروا الى المدن والعواصم، وطبقة من الفقراء يعيشون تحت وطأة الفاقة ويكابدون لقمة العيش من بين أنياب ومخالب الجشعين، وبالذات عيريم التي تجعلك تشعر بالحزن والأسى لا لعدم وجود مشاريع وإنما لظهور أشكال القهر ولوجود قوى النفوذ ومظاهر مزعجة يتلذذ بها الأقوياء على مواطنين بؤساء يريدونهم ان يعيشوا كقطيع الأغنام.. فالحاج غانم حازم فوز شكا ضيق الحال وقلة المصروف متحدثاً «أولادي خمسة كلهم عاطلون عن العمل، حياتي كلها كفاح، ليس لدى راتب سوى معاش الرعاية الاجتماعية ستة آلاف يصل منها خمسة آلاف فقط وألف ريال يذهب خصم، أحياناً أقوم ببيع الحطب والفحم يهمني ان أعيش عزيزاً شابعاً عندي قوت يومي»، ثم روى لنا قصصاً وحوادث تعرض لها مفادها ان متنفذين حرموا أولاده من التوظيف واغتصبوا أرضه مستغلين الفقر الذي يعيشه، كذلك سمعنا حكايات المعمرين وأحاديث الشباب وأنات العجائز كلها تتحدث عن مصيبة الجفاف حيث لا آبار جوفية ولا ارتوازية يعتمد الناس في حصولهم على الماء على الخزانات الاسمنتية والسدود او ما تسمى بالسقاية التي يتم تجميع المياه فيها بواسطة قنوات من الامطار. مرارة علقت في حلق علي عبدالجبار خالد متحدثاً بعد ان عرفنا باسمه: «لقد سئمنا الحياة بسبب الجفاف، الاطفال والفتيات والنساء يقفن طوابير امام خزانات وسدود المياه، أصبح على أي أسرة عندما تخطط لبناء منزل أن تعمل خزانا اسمنتيا بجانبه لتجميع مياه الامطار في الموسم كما ان هناك سدودا كبيرة تم بناؤها بجهود فاعلي الخير والمحسنين وهناك عوائل تركت منازلها ونزخت بسبب الجفاف». كل مصيبة تهون الا مصيبة الجفاف هكذا دوت الصرخة من الحجة مريم مقبل صالح الموبّل قبل ان نخوض معها الحديث، ثم أردفت قائلة: «يا ولدي الماء الماء محنة التعب نسهر ونتقاسم دبات الماء حسب الترتيب وعلى عدد أفراد كل بيت» كما أفادت الحجة مريم بأن هناك نساء يقطعن مسافات تحت أشعة الشمس وزمهرير البرد ويعدن بعد رحلة معاناة بدبة ماء سعة عشرين لتراً نصفها تراب والنصف الآخر خليط من ماء وعرق المعاناة.

التعليم من ينقذه؟
طلاب يدرسون في الكهوف وتحت الاشجار ومدارس بدون مدرسين، تسريب الامتحانات الوزارية، كتب دراسية غير متوفرة، شهادات تباع بالمزاد، امتحانات النقل فيها نظام وتنظيم وحزم وفشل عكس الامتحانات الوزارية التي يحدث فيها الغش الرسمي والنجاح بنسب مرتفعة، ذلكم هو واقع التعليم في عزلة اليوسفين كما حصدته «الأيام» من عشرات الآباء والمعلمين ونكتفي بحديث الاستاذ عبدالغني عبدالخالق محمد الذي قال:«مدارس آيلة للسقوط نقص في التخصصات العلمية والقرآن الكريم، تلاميذ المدارس يذهبون للعمل يحضرون وقت الامتحانات نجاحهم الدراسي يكون بالدفع مقدماً، وضع التعليم مترد فلا أمانة ولا متابعة، الامتحانات الداخلية فيها ضبط ومراقبة صحيحة أما الامتحانات الوزارية نجاح ونسب مرتفعة، لن يصلح التعليم الا بوجود ادارة تربوية قانونية تراقب الله وتخشى الضمير».

الاستاذ فاروق عبدالله محمد، عميد المعهد العالي شرح لنا قصة معهد معلمي الهجر وما وصل اليه قائلاً:«المعهد قدم وخدم المؤسسة التربوية نماذج كفؤة استفادت منها ثلاث محافظات لمدة خمس سنوات وبعد ان تم الغاء مساق الدبلوم العالي تم تدشين المعهد وتحويله الى كلية مجتمع وبحضور المحافظ السابق الذي أكد في كلمته اهتمام القيادة السياسية بالمعهد، لدي ملفات ومذكرات ودراسات بشأن اعتماد المعهد وتحويله الى كلية المجتمع لكنها ذهبت أدراج الرياح فعبر صحيفة «الأيام» أناشد كلاً من وزيري التعليم والتدريب المهني سرعة الاهتمام والنظر اليه بعين المسئولية». ساقني الفضول الصحفي للذهاب الى معهد الهجر فوجدت مباني نظيفة مرتبة واسعة، قاعات ومختبرات وملعباً رياضياً وأثاثاً، وجدت بيوتاً للهوام ومخلفات الطيور وخيوط العناكب بل بعض غرف المعهد أصبحت مأوى للخفافيش والثعابين، تعجبت وتساءلت: لقد كانت تلك الحشرات والطيور والثعابين أرحم وألطف من حكومتنا التي وعدت ولم تف بوعدها وتركت المبنى خاوياً على عروشه.

كهرباء وقماقم
بعض قرى جبل جالس ووادي البير وأطراف المقابل والابل لم يصلها أضواء الفوانيس والشمع فهي تعيش على القماقم وبعضها وصلت اليها خدمة الكهرباء كمناطق ظمران والكعبين والشياح، لقد عمل المواطنون جاهدين على الحفر وسط الصخر ووصلت أعمدة الكهرباء الى أماكن جبلية صلبة ذات وعورة وخطر يصعب على المرء ان يسير فيها بنفسه، سألت الوالد أحمد علي الرفاعي كيف تم رفع تلك الاعمدة الى أعالي الضياح فقال المعاناة تصنع العجائب، وقال مجيب عبدالباقي :«العزيمة القوية مع الاكتاف المترابطة وتخطيط محكم وتعاون وإصرار جعل من المستحيل ممكناً، على الحكومة ان تعطي وعلى المواطن ان يعرف قيمة العطاء». وليد محمد مقبل القباطي ذكر ان عيشة العزلة متفاوتة «فبعض الناس الميسورين عندهم مواطير خاصة وكثير من الفقراء لديهم فتيل الغاز والفوانيس وقماقم اما الكهرباء فمحدودة على مناطق الهجر الريد ظمران الكعبين وما جاورها»، عضو المجلس المحلي عبدالرؤوف عبدالرب أكد صحة كل ما جمعته في الاستطلاع مضيفا «كل دول العالم تهتم بقضايا وهموم مواطنيها دول تهتم بتربية الحيوانات واطعامها ونحن بني الانسان في اليمن وفي اليوسفين خصوصاً لم نجد من تهتز له شعرة لغصص ومآسي الساكنين، أصبحت أصوات المواطنين الانتخابية أرقاً مهمة تتسابق عليها ثم تترك حالهم بأعذار واهية، نحن هنا في عزلة اليوسفين قبيطة منسيون نبحث عمن يواسينا».

وقفات لابد منها
- عادات الزواج في عزلة اليوسفين مزعجة جداً لأن تكاليف الوليمة والقات تساوي أضعاف ما يدفع من مهر للعروس وكذا عادة اطلاق النار في الجو وبطريقة عشوائية حولت الافراح الى أحزان وهذا ما شكا منه وأكده الآباء المسنون.

- بعد طول بحث ورصد في سهول وجبال اليوسفين قبيطة القاسية جداً شعرنا بالإرهاق يهد عزائمنا ولم نتمكن من الإحاصة بباقي فصول المعاناة الفاجعة التي تفتك بأبناء العزلة فكان لابد من الرحيل خصوصاً وقد أقبل الليل يبتلع السهول والصخور والشعاب وغابت القرى الا من أضواء خافتة تصدرها مولدات خاصة وفوانيس فأمامنا سفر طويل وشاق.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى