«الأيام» تستطلع معاناة مناطق الحمّيدة كرش .. مناطق تبحث عن هوية .. وأصوات لم تجد من يسمعها

> «الأيام» انيس منصور:

>
أحد أطفال الحميدة ترك الدراسة ويقوم بنقل الماء
أحد أطفال الحميدة ترك الدراسة ويقوم بنقل الماء
جبل المشرفية، عصص، عشران الأسفل والأعلى، شعبين، جول هريب، قميح، القيضي والنقيل .. كلها أسماء ومسميات لمناطق قبائل الحميدة (صبيحة كرش) متناثرة على تلال جبلية هشة، وسهول غبراء ووديان
متفرقة تعاني الغصص والعداوات السافرة، وتتراءى في وجوه كل أبنائها ملامح الفقر والفاقة، فلكل قرية قصة هموم، ولكل موطن حكاية بؤس وللجميع الف حكاية وحكاية .. إنها مساكن مثخنة بالجراح .. طبيعة غريبة وحياة أغرب نستطيع ايجاز حكايتها بـ(دموع ساخنة وأصوات لم تجد من يسمعها)، فالحياة هناك تسير بقانون الأعراف البدائية.

«الأيام» اقتحمت عالم تلك القرى البدوية واستطلعت أحوالها.. فإلى التفاصيل:
كانت البداية عند مشاهدة عشش ومنازل صغيرة وصلنا اليها صباحاً، حيث كانت زقزقة العصافير وهديل الحمائم هي المسيطر على المنطقة، ولم نلبث إلا قليلا حتى تدافعت الينا قطعان من الأغنام عبر منحدر جبلي وخلفها راعيان بزي تقليدي وآثار النعاس ما زالت مسيطرة على الوجوه.. وعلى طرف المنحدر الثاني وقف راع آخر يداعب (شبّابته) المتحشرجة بايقاع جميل يحاول اختراق السكون.

وتحدث الينا المواطن جاحص سعيد صداح قائلا: كل هذه المناطق وأخرى خلف تلك الجبال تسمى مناطق الحميدة تقدر نسبة السكاني فيها (500 أو 600 نسمة) ويعتمد الناس هنا على رعي الاغنام والضان وعلى الزراعة الموسمية، والموظفون لا يتعدى عددهم أصابع اليد. هذا التجمع السكاني يعاني من صعوبات كثيرة منها تفشي الأمية والجهل المستحكم والبداوة ، كما يعتمد الناس على الاحتطاب وبيع الحطب وبيع الفحم، حياتهم بين الاشجار والشعاب والجبال لا يعرفون المدينة والأسواق إلا نادرا لشراء القوت الضروري، كما ان طرق المواصلات جبلية ومتعبة وبعيدة عن السوق، وهناك طريق نقيل المدرجة يبلغ ارتفاعه 800 متر وهو يربط قرى القيضي بطرق فرعية توصلك الى كرش، وهذه الطريق خطيرة ومتعبة بها ستة عشر منعطفا جبليا وهي ضيقة وتتساقط فيها الصخور أيام الأمطار، لم نجد أي اهتمام بالطريق منذ خمس عشرة سنة.

وأضاف: عبر «الأيام» أطالب محافظ المحافظة ومدير عام المديرية بتخفيف معاناة الناس ومسح طريق نقيل مدرجة وتوسيع شبكة الضمان والرعاية الاجتماعية لفقراء مناطق الحميدة لاتساع نسبة الفقر فيها.

وهكذا ساق لي جاحص قصصا وحكايات ومشاهد تثير الاندهاش والحسرة من العسير الإحاطة بها وتحتاج الى فكتور هوجو ليضيفها الى كتابه (البؤساء) تدل على هشاشة هذه الحكومة التي تعلم بمصائب هؤلاء القوم.

ثم مضينا نتابع واقع البؤس المنظم لنجد عششاً وكهوفاً ومنازل شعبية تدل على هول المأساة، استقبلنا الشيخ مقبل الصمة علي، بدأ حديثه بتعريف نفسه موضحا أنه من مناضلي الثورة ومن أفراد جيش تحرير جنوب اليمن، شاكيا بأنه حرم من الاستحقاقات ولم تنظر الجهات الخاصة الى همومه. وحدثني بابتسامة تخفي خلفها جبالا من الهموم وسرد لنا رحلة عمر كانت ملونة بألوان أهداف الثورة، لقد لحق هذا الشيخ بجموع من المناضلين الذين غيبهم التاريخ المزيف وتجاهلتهم المتاحف ليبقى بطلا في زمن الانكسار.

ثم عدنا للحديث عن أحوال وأسفار النساء والفتيات في سبيل الحصول على الماء فقال: «نعتمد على مياه الامطار والآبار الجوفية وقد نضبت المياه من بعض الآبار، والأغنام هي الأكثر استهلاكا للماء .. والماء عندنا تعب في تعب، لقد سقطت طفلتان هما ابنة عبد محمد أحمد فريد وابنة صالح عثمان حنش في بئرين والسبب البحث عن الماء، وعلى ظهور الحمير وفوق رؤس النساء يتم جلب الماء، لم نشعر بخدمات ما تسمى بالدولة حتى حفر الآبار تم بجهود أهلية وبعضها شخصية وخيرية، نحن هنا منسيون ليس لنا إلا الله».

عاودت وكررت الاسئلة على الشيخ عن مطالبته للجهات المعنية فقاطعني الأستاذ عريدان علي صداح الحميدي قائلاً: قدمنا شكاوى ومطالبات ومتابعات، لكن اصواتنا لم تجد من يسمعها، وها نحن عبر «الأيام» نطالب وسنرى هل سيكون هناك تجاوب أو لفتة». ثم سألت عريدان عن الوضع الصحي فتنهد وصمت قليلا وقال: «أي وضع صحي؟ كنا من قبل نتعالج في عيادة مدرسة البدو الرحل قميح أما الآن فإن من معه حالة اسعافية فعلية أخذ سيارة على حسابه الى مستوصف كرش أو مستشفى المسيمير، وأكثر الامراض انتشارا هي الملاريا والالتهابات التنفسية والبلهارسيا وفقر الدم، كما يكثر في مناطقنا لدغ الثعابين».

واختتم عريدان حديثه: «لا شيء جميل وإيجابي يمكن التطرق إليه، ولسنا متحاملين على البلاد كما أننا لسنا ممن يرغب في إظهار وطنه على كل ما فيه سيئ وفاسد، ولكن لغة الواقع أكبر شاهد على ما تتغنى به الحكومة عبر القناة الفضائية والصحف الرسمية التي لم تصل ولن تصل الى مثل هذه المناطق المسكونة بصوت العصافير ومواء القطط .. حتى الجانب التعليمي يسير من سيئ الى أسوأ، تفشي الأمية، عدم وجود المدارس القريبة من المناطق، تم فتح فصول تحت الاشجار في قرية عشران الاسفل باعتبارها وسط القرى الأخرى وبمدرس واحد فقط مقابل ثلاثة فصول هي (أول وثاني وثالث ابتدائي)، بعدها ينتقل الطلاب إلى مدرسة الفرقان، كما أن طلاب بعض القرى يقطعون مسافة 6 كليومترات ذهابا و6 كيلو إياباً، ولا يوجد شيء اسمه تعليم الفتاة ولا يحزنون بسبب تقاليد وأعراف اعتاد عليها أهالي الحميدة هي امتناع الفتاة عن التعلم».

تلك نقاط عريضة أخبرنا بها عدد من المواطنين، فيما أخبرنا الأخ حربي سالم سواد عن مدرسة الفرقان حاليا (قميح سابقا) قائلا: «مدرسة الفرقان من أقدم المدارس وقد أسهمت في تخريج الاجيال الذين معظمهم الآن في مقاعد قيادية وكم نسمع ونشاهد عن افتتاح وترميم المدارس في أرجاء الجمهورية ولم نجد أي اهتمام بمدرسة الفرقان رغم أن وضعها يرثى له، فالسقوف تكاد تنهار والجدران متشققة حتى أثاثها لم تسلم من النهب والسرقة، ولا زالت قضية سرقة الاثاث منظورة أمام محكمة القبيطة». كانت كلمات مختصرة عن الواقع التعليمي في هذه المناطق التي تمزقها الجراح والنحيب. وفي استطلاعنا وجدنا عشرات الشباب الخريجين من الجامعات يرعون الأغنام ويبيعون الفحم، احلامهم كانت تزن الجبال وفجأة تمخضت الجبال فولدت هموما ومستقبلا غامضاً، فمنهم من له سبع سنوات من الانتظار على أمل، ولكن القطار تأخر بل تأخر كثيراً وباتت أحلامهم كوابيس مزعجة.. ملفات وشهادات تخرجهم ما زالت حبيسة الادراج في مكتب الخدمة المدنية بلحج ولا يزالون في رصيف البطالة.

شاب عاطل عن العمل
شاب عاطل عن العمل
الشاب عارف أحمد امصمة اضطر لترك المدرسة قائلا : «نتعلم وندرس الى اين؟ إلى الشارع؟ حتى الالتحاق بالسلك العسكري اصبح صعباً جدا، أنا اعمل هنا بإحراق الاخشاب الكبيرة وتحويلها إلى فحم لأعيل اسرتي من هذا العمل الحلال بعد أن توفي والدي وخلف أسرة لا دخل لها».

بهذه الصورة تحدث عارف وبصوت يتقطع حسرة وألماً في بلد يدعي الرخاء والنماء وساكنوه يشكون العناء والشقاء.

< المواطن ناصر مقبل حيدرة ترحم على أيام زمان حيث كان للحياة طعم وشم بعكس هذه الايام فكل شيء غال، والمناسبات والاعياد تأتي إليهم كضيف ثقيل وقد كانت في الماضي مسرحا وملتقى يلتقي فيه الأهالي للابتهاج بفرحة المناسبة.

< أما الأمين الشرعي للمنطقة داؤود عبده صالح الملازم فشرح لنا الكثير والكثير عن هموم هذه المناطق قائلا: «هذه القرى والمناطق يتكبد الناس فيها البؤس والشقاء الذي هو خليط من الفقر والجوع والظلم والاوجاع الدائمة، يساعدها على ذلك واقع تعيس ووضع معيشي مر مثقل بالحرمان والإهمال ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم». ثم سأل داؤود عبر «الأيام»: «أين حقوقنا الخدمية؟ أين الوعود التي قطعها المسؤولون؟ أين هي المنجزات والرخاء وسنذهب إليها حبواً على الركب».

بعد لقاءنا الامين الشرعي أقبل الليل وارتفع صوت قطيع الاغنام للمبيت بعد رحلة البحث عن الماء والكلأ. ولم نُحط بفصول المعاناة كلها..

نعتذر لجميع الذين لم نصل إليهم وننقل مصائبهم.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى