الإسراء والمعراج.. استشراف للمستقبل

> «الأيام» علي بن عبدالله الضمبري:

> حينما يحتفل المسلمون قاطبة بذكريات ومعالم ومشاهد ومواقف السيرة النبوية المحمدية ومنها الإسراء والمعراج فإنهم بذلك يجمعون على ان عطاء هذه المناسبات الاسلامية المقدسة ليس عطاء زمانياً عابراً، بل هي مناسبات لأحداث متجذرة في التاريخ مؤثرة في الحاضر ممتدة الى المستقبل المفتوح {ولتعلمنّ نبأه بعد حين}( ص/ 88).. كما أن هذا الاحتفال والاحتفاء بما يدل عليه من تذكير بأيام الله وتفكير في حركة الاحداث والاشخاص والأزمان يساعد المسلم المعاصر على تأسيس وتكوين وامتلاك رؤية ثقافية شرعية لا غربية ولا شرقية يكاد ألقها الرباني يضيء من الوحي القرآني لرفد وإثراء الوعي الانساني حتى يخرج من حالة الإرجاء والإحباط، واليأس والتخاذل، والانسحاب من الحياة، والفشل في مواكبة العصر.

ولعل من بديع الموافقات - ولا أقول الصدف -أن يكون احتفالنا بهذه الذكرى الشريفة متوافقاً مع ذكرى محاولة الصهاينة إحراق المسجد الاقصى المبارك في 21/8/1968م وربما كان هذا التوافق ليدرك المسلم المعاصر حجم الهجمة الصليبية الصهيونية على الاسلام والمسلمين حتى يفكر الجميع - حكاماً وعلماء وشعوباً - في التحرر من حالة الرق السياسي والعبودية الفكرية والتبعية الاعلامية من أجل التخلص من الهيمنة الحضارية بقطبها الواحد، وعولمتها المستبدة التي تريد السيطرة على الخيرات والثروات والمقدرات، وتئد في لحودها المظلمة الثورة على الظلم ومقاومة الاحتلال واستعادة الحكم الراشد على منهاج النبوة..

صحيح المنقول وصريح المعقول

إن من أبدع وأروع خصائص الإسلام أن رؤاه وأهدافه وشعائره وشرائعه وغاياته ووسائله لا تتقوقع في ذكريات الماضي، بل تضيء أنوارها المتوهجة لتمتد حتى تشمل آفاق المستقبل المنظور في الدنيا، وتنداح بركاتها وآثارها لكي تحقق سعادة الإنسان في المستقبل الغائب عن العين متمثلاً في عالم الغيب "لأن الرؤية التي يمنحها الاسلام للمستقبل بشكل خاص، ولعالم الغيب بشكل أعم ليست رؤية غائمة، حالمة، طوباوية بعيدة عن القدرة على التصور والاحاطة العقلية بها، وإنما هي رؤية تمتلك كامل مقوماتها، وحتى مقدماتها المادية في الدنيا، ونماذج السنن التي تحكمها حيث يمدنا التاريخ بدليل صدقها وفاعليتها، ويضعنا على عتبة المستقبل متحققين بالزاد المطلوب، لذلك نقول: «إن أي استشراف للمستقبل لا يتحقق بدون استشراف الماضي» (راجع مقدمة كتاب - المستقبل للإسلام - للدكتور أحمد علي الامام).

وإذا طبقنا تلك المقولة المنقولة آنفاً فإننا سنرى أن لكل حدث في معجزة الاسراء والمعراج عمقاً بعيداً، وأن لكل حركة مدلولاً واسعاً، وأن لكل مشهد مضموناً مكنوناً، وأن كل عبارة تحمل في طياتها اشارة وبشارة، وأن لكل فعل ماض ترجمة مستقبلية.

فحادثة شق الصدر المحمدي المطهر تمت ثلاث مرات «فالأولى كانت في زمن الطفولة لينشأ على أكمل الاحوال من العصمة من الشيطان، والثانية عند المبعث زيادة في إكرامه ليتلقى ما يلقى إليه بقلب قوي في أكمل الاحوال من التطهير، والثالثة عند إرادة العروج ليتأهب للمناجاة» (راجع فتح الباري 7/604 حديث رقم 3888 - كتاب مناقب الانصار)..

وفي مستقبل الزمن جاءت العمليات الجراحية للاستشفاء من أدواء الجسد المادي وعلل الجسم المحسوسة.

والبراق في زمن الجهل والجاهلية غير مقبول ولا معقول، لكن جاءنا من أنباء التقدم العلمي التكنولوجي ما فيه مزدجر لنا عن الخوض في متاهات الغيب وأسراره بعقولنا القاصرة وأذهاننا الكليلة العليلة.. وجعل الله في كل شيء ابتكره الانسان بعد ذلك - من طائرات تفوق سرعة الصوت وصواريخ عابرة للقارات ومركبات فضائية - جعل الله فيها حجة علينا ودليلاً على نبأ (البراق) الذي كانوا فيه يختلفون، فتجلت الحقائق على آفاق الاكوان كما قرأناها أول مرة في آيات القران لكي {يزداد الذين آمنوا إيماناً} (المدثر 31).

والانتقال من مكة إلى فلسطين فيه إشارة مستقبلية يوجزها د. صلاح الخالدي في أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم «هو وارث الانبياء السابقين لهذه الارض ومنهم أنبياء بني اسرائيل... ولهذا جمع الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم الانبياء والمرسلين والتقى بهم في المسجد الاقصى وصلى بهم إماماً فكان ذلك مؤتمراً إيمانياً حافلاً نشهد فيه التسلّم والتسليم حيث سلم الانبياء السابقون الإمامة والوراثة والخلافة والعهد والمسؤولية لمحمد صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده حتى قيام الساعة وجعل الله المسجد الاقصى وما حوله بداية المعراج لأنها هي الارض الواقعة قبالة باب السماء وهي أرض المحشر والمنشر» (راجع كتاب - حقائق قرآنية حول القضية الفلسطينية ص 114).

> وفي سدرة المنتهى رأى النبي الاعظم صلى الله عليه وسلم نهري النيل والفرات - كما رواه البخاري - وهذا يعني أن هذين النهرين سيكونان حدين فاصلين لأرضية المعركة المستقبلية مع اليهود لذلك سمى الله هذه البقعة المباركة {الأرض المقدسة} المائدة 21 و{الارض التي باركنا فيها للعالمين}.. وهذا كله يدل على أن هذه الارض هي عنوان الطهارة والقداسة والتوحيد، فينبغي على كل مسلم ألا ينخدع بدعوات الصهاينة الذين يزعمون أن ارض اسرائيل من الفرات إلى النيل، وعلى كل مسلم أن يسعى جاهداً ومجاهداً لتحريرها ونصرة لأهلها {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر}.

فلسطين أرض الملاحم

لقد احتوت معجزة الاسراء والمعراج على رصيد عقيدي وتاريخي وحضاري وقيمي وسلوكي، وامتازات بخصوبة مدلولات أحداثها الباهرة الطاهرة التي مكنت المحققين والمدققين والمتأملين من إدراك الابعاد المستقبلية التي تتمتع بها رسالة الاسلام المعرفية وما تحمله من إشارات وبشارات مطمئنة عن التغلب والانتصار على الصعاب ومواجهة العقبات التي سوف تعترض مسيرة الدعوة الاسلامية من خلال مقدماتها في ماضي الانبياء السابقين، وتحققها في حاضر النبوة الخاتمة وتوقع عواقبها ومآلاتها في المستقبل المفتوح على كل الاحتمالات.

وحينما نستجلي كنه البركة الكامنة في (الأرض المباركة) ببيت المقدس، وأكفاف فلسطين فإننا نجد أن الإسراء إليها كان بمثابة فتح وتطهير روحي قبل الفتح السياسي والعسكري على يد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. كما بينت العديد من الأحاديث النبوية التي تندرج ضمن باب الفتوح والفتن وأشراط الساعة وعلامات القيامة أن هذه الأرض ستشهد وقائع وأحداثاً مفصلية وحاسمة، أهمها:

أولاً: على ثرى هذه الارض المباركة سينهزم اليهود وتزول دولتهم.

ثانياً: عليها سيقتل ويباد المسيح الدجال اليهودي وتنكشف أكاذيبه.

ثالثاً: وعليها سيبيد الحق جل وعلا بأيدي عباده المجاهدين، يأجوج ومأجوج.

رابعاً: وقريباً منها سينزل عيسى بن مريم عليهما السلام في دمشق.

خامساً: وعليها (نخل بيسان وبحيرة طبرية وعين زغر) التي ورد ذكرها في (حديث الجساسة) كما رواه مسلم في كتاب الفتن.

سادساً: وفي أرضها التي بارك الله حولها «فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى بأرض يقال لها (الغوطة) فيها مدينة دمشق خير منازل المسلمين يومئذ» رواه أحمد وأبو داود والحاكم.

لقد حدد النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ملامح الملاحم ومشاهد الشواهد، وأوضح الامكنة وشخص السمات والعلامات لجيل النصر القادم المنشود الذي يتفاعل معه الحجر والشجر ويقول له: يا عبدالله يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله.

الصلاة سبيل الصلاح

ومن خواتم هذه الرحلة العلوية فرضت الصلاة - خمساً في العمل وخمسين في الجزاء- ومن بديع الإعجاز العددي القرآني أن البغضاء والحسد- وهي فواحش قلبية نفسية- وأن الخمر والخنزير والاصنام - وهي فواحش عقدية وحسية - قد تكررت كل واحدة منهن خمس مرات في القرآن (أي بعدد الصلوات الخمس) ولن ينجو المجتمع المسلم من هذه الفواحش إلا بالصلاة {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} العنكبوت 45 .. كما أن التنكيل والرعب والخيبة تكررت كذلك خمس مرات.

فيا إخوة قلبي وأشقاء روحي حافظوا على الصلوات واسألوا الله الشهادة تنالوا كل السعادة وتبرأوا من الظلمة والطواغيت التي تبتلعهم الصهيونية، واحذروا خطباء الفتنة ووعاظ السلاطين أشباه الشياطين، واعتصموا بحبل الله ولا تنازعوا فتفشلوا وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

مدرس بكلية التربية - جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى