مغامرات مستثمر كويتي .. في سماء اليمن!

> «الأيام» خليل علي حيدر:

> ورد ذكر حدائق أو جنات عَدْن في كل من التوراة والقرآن الكريم. ولكن الباحثين اختلفوا في موقع المكان. فقيل انه في فلسطين وقيل في تركيا حيث منابع نهري دجلة والفرات وقيل في جنوب الجزيرة العربية وقيل «جنّات عدن» اي استقرار واطمئنان، ويراد بها موضع في الجنة. (معجم الفاظ القرآن، مجمع اللغة العربية) وبغض النظر عن علاقة مدينة عدن اليوم، والتي كانت عاصمة جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية أو اليمن الجنوبية، بعد استقلالها عام 1967، بالكلمة الواردة في النصوص الدينية، إلا ان المدينة والدولة برمتها، وكانت مساحتها 112 ألف ميل مربع وسكانها عام 1968 حسب تقديرات الحكومة مليونا ومئتي ألف نسمة، اصبحت بعد الانقلاب اليساري في يونيو 1969، مكاناً خصباً للتجارب الاشتراكية والماركسية في العالم العربي، حيث وضعت أنظمة تأميم فجة مرتجلة موضع التنفيذ، وجرى بين أجنحة الحكم صراع دامٍ زلزل البلاد.

احتلت بريطانيا ميناء عدن عام 1839 من خلال شركة الهند الشرقية. وكان هذا الميناء اثمن الموارد الطبيعية في البلاد، لسعته وعمق مياهه. ففي عام 1966 مثلاً، استقبل ستة آلاف سفينة، بلغ عائد خدماتها ومصروفات طواقمها وغير ذلك نحو 22 مليون دولار. غير ان ميناء عدن تلقى ضربة قاسية مع حرب يونيو 1967، وإغلاق قناة السويس الذي امتد لسنوات طويلة نسبياً. كما خسرت البلاد انفاق القوات البريطانية الذي كان يقدر بخمسين مليون دولار، فتراجع المستوى المعيشي وارتفعت نسبة البطالة بشدة. (انظر: The World Almanac1970 ) .

لا يعنى هذا المقال بمصير تجربة اليمن الجنوبية وما جرى فيها من احداث. ولكننا نحاول أن نروي قصة طريفة، بل مخيفة، لرجل الأعمال الكويتي السيد محمد الشارخ، الذي لبى والده نداء «الاستثمار في البلاد العربية»، محاولاً الاستفادة من فرص العائد المادي المجزي في اليمن السعيد، فوضع ماله في مصنع للمشروبات الغازية، مشتركاً مع احد الملاك المحليين، وبعث ابنه، في ظل هذه الاوضاع المضطربة، والفوضى السياسية في اليمن الجنوبية، للاطمئنان على الحلال. فلنستمع إليه وهو يروي قصة ضمن قصص اخرى في كتابه «عشر قصص» (القاهرة، 2006، دار ميريت). وصل محمد الى مدينة «تعز» اليمنية تمهيداً للسفر الى عدن. نهض في الخامسة صباحاً وركب التاكسي متجهاً الى المطار، حيث ستطير الطائرة في السابعة. وصلت المطار، يقول محمد، متضايقاً من كل شيء ثكنة جيش من صفيح مضلع لونه الداخلي ازرق غامق وسقفه بني غامق. في الداخل مكتب واحد لركاب اليمنية مكتوب فوقه بخط كبير: «الحديث مع واحد فقط»، اي ان موظف الطيران يستطيع ان يسمع ويخاطب شخصاً واحداً فقط. ومع ذلك كان كافة الركاب يحادثونه. ركاب معظمهم قرويون شعثاء، وموظف الطيران عيناه جاحظتان فوق شارب كث وأسنان مصفرة من كثرة التدخين وصوته عال حاد يخدش الاذن. جلست في الكافتيريا احتسي الشاي والركاب يتجهون نحو الطائرة التي لا تبعد اكثر من عشرين او ثلاثين متراً. حوائجهم كانت معهم، بطانيات مستعملة، قفص دجاج، ربطات قات، شنط قديمة ممزقة مربوطة بحبال.. وأنا بيدي شنطة «سامسونايت»!

الطائرة «داكوتا» صغيرة الصعود لها سبع درجات صغيرة. المدرج طريق واحد ومن ثم لا خوف من تصادم طائرات والسماء صافية. اول ما تدحرجت الطائرة على المدرج مد لي المضيف ورقة قال لي انها قائمة الطعام، ولأن الرحلة قصيرة فهم لا يقدمون اكلاً عليها. لابد انه اعطاني قائمة ليثبت لي ان الطائرة محترمة. قائمة كالحة من كثرة الاصابع التي لامستها.

هل يستحق المصنع هذه الرحلة؟ مصنع البيبسي في عدن الذي بناه الوالد مع عائلة العيدروسي قبل عشرين عاماً وقامت الحكومة الاشتراكية بتأميمه العام الماضي. تأميم كافة المصانع وكل ما يمكله السادة الاغنياء والاجانب امثالنا.

كان صديقي احمد الجبار زميلاً في الجامعة الامريكية ببيروت، من قادة الحزب الاشتراكي في البلاد. كلنا تخرجنا من هناك. كلنا نريد تغيير هذا المجتمع الآسن. نريد قلب الامور. اجتثاث الطغيان. كنا نتطلع لغد افضل ودفن الاستبداد الشرقي الى الابد. قال لي زميلي «الجبار» بالتلفون «تعال سنعالج الموضوع» توقفت في تعز.. ولكن ما الذي سأفعله في عدن؟ لا، لم آت للتعويض. كم سيعطوننا على أي حال؟

مازالت الغيوم فوقي. افضل الطيران بهذه الطائرة عن تلك الطائرات التي تحلق على ارتفاع 35 الف قدم. لا يعلن في هذه الطائرة السرعة او الارتفاع. الارض قريبة جداً. انظر للأرض وأرى رعاة جمال وماعز وطيوراً بحجمها الطبيعي.

وفجأة! فجأة! ماذا؟ شعرت بهواء قوي بارد جداً يلفح رقبتي وأذني اليسري. مددت يدي اليسرى امسح اذني ورقبتي لكن الهواء كان مستمرا. استدرت نحو مصدر الهواء البارد، ورأيت باب الطائرة الصغيرة مفتوحاً للآخر، والهواء ينفخ لفات القات المكومة على الارض خلفي والدجاج يتقافز ويرتعد من البرد!

رجلاي التصقتا ببعضهما، والقلب هبط الى اغوار عميقة.. انه الموت. كيف لا يشعر الطيار بالباب المفتوح! يلعن ابو مصنع البيبسي. لماذا يارب اتيت لليمن! لماذا اتى الوالد لعدن؟

صرخت بالمضيف الذي كان يحادث راكباً في مقدمة الصفوف. التفت نحوي وهو يرى انفعالي وصراخي.. ألم يشاهد الباب المفتوح؟ أولم يشعر ببرودة الهواء؟ أولم يسمع قوقأة الدجاج؟ صرخت به ثانية وأنا أرتجف: «الباب، الباب».

اتجه نحوي، وحين وصل وضع يداً على كتفي وانحنى يسألني: ماذا تريد؟ فلما قلت له، نظر إلي ساهماً وقال: الباب؟ ذهب ومد يده خارج الطائرة وسحب الباب وقفله بقوة ودنا مني مبتسماً وقال: هل كنت خائفاً؟ لا تهتم، الطائرة بدون ضغط داخلي، يمكن فتح كافة الشبابيك دون ان تقع. ألا ترى أننا لا نطير عالياً، هل تريد أن أفتح الشباك؟ لا، لا، لا أريد أن أشم الهواء الطبيعي!.

بانتهاء قصة الرعب هذه، بدأت قصة أخرى: قال المضيف: هل تريد قهوة؟ قلت شكراً لا أريد. طيب شاي؟ قلت شكراً فقط أريد أن أصل لعدن.

أصر على إعداد القهوة والتكريم.. غاب عن عيني بعد دقائق سمعت صفيراً ولاحظت حرارة تأتيني من ناحية أذني اليمنى. كان المضيف على أرضية الطائرة، ينفخ بيده «بريموس» لعمل قهوة لي. موقد نار مشتعل! صرخت به: ماذا تفعل؟ رفع رأسه نحوي «القهوة» كان العفش قريباً منه والنار وإناء القهوة بيده، صرخت به: «أرجوك لا أريد قهوة.. لا أريد قهوة» كان الفنجان بعد قليل أمام وجهي وكان لا بد من أخذ القهوة، اخذت الفنجان وأنا انوح: «يرحم والديك اطفئ البريموس»، وضع يده على كتفي والنار تشتعل خلفه: «تخاف حتى من البريموس»؟

حطت الطائرة في عدن بعد ان ضربت الارض بحشرجة واهتزت كدجاجة تنفخ ريشها!.

كان في استقبالي رجلان عرفت ان صديقي «الجبار» قد ارسلهما، وعرفت انه خارج المدينة برفقة رئيس الوزراء، فهو الآن وزير الاعمار! قلت: ولكن الذي اعرفه ان وزير الاعمار هو «أكثم اليربوعي» وقد كان زميلنا في الجامعة كذلك، استدار نحوي احد المرافقين، وكنا في السيارة: «لا تسأل عن أكثم.. لقد ذهب في الوجبة الثانية.. هو وكل مجموعته صدر الحكم بإعدامهم وتم تنفيذ الحكم اول امس، او، والله اعلم.. قبل ذلك».

نزلت في احد قصور الضيافة، وبقيت يومين لم يتصل بي احد - حتى ولا أحد من عائلة العيدروسي. قيل ان التلفون مقطوع عن بيت الضيافة!.

عاد «الجبار» من جولته واتصل مرحباً وداعياً للعشاء ،في منزله اثناء العشاء بدا أن المجموعة الحاضرة تريد أن اتوسط لها لبناء علاقة مع شركات النفط، ماذا تريد بمصنع البيبسي؟ دبر للوزير علاقات مع هذه الشركات! قاطعه من وزير المعادن: «لنا ولكم، أليس لعائلتك شركة تسويق نفط؟».

بعد العشاء ودعتهم، ولكن الوزير «الجبار» اصر على ان أزور المدينة الأثرية «شبام»، ووعدني ان يدبر لي مقعداً على الطائرة المغادرة في الغد.. لم أجد الجرأة في السيارة مع الوزير على ان اسأله عن زميلنا «اليربوعي» الذي قيل بأنه أعدم، كان يرأس مجموعتنا في بيروت. كان زعيمنا ورئيسنا وأكثر ثقافة، حتى ان نصف كلماته محفوظ من «تروتسكي» وبقية الأحفاد العظام.

لم أسأله عن مصنع البيبسي! ماذا سأقول للوالد حين اعود. لم أر العيدروسي ولا المصنع!

اقترح علي الوزير ان نتمشى قليلاً قبل الوصول لبيت الضيافة فمشينا قليلاً نتبادل الحديث، كان يدخن بلا انقطاع، وعندما رفع الهواء طرف جاكتته لاحظت مسدساً مشدوداً في بنطلونه، «اليربوعي .....» قال الوزير «منذ بيروت كما تتذكر كان يتطلع للزعامة»، لاحظت ان الكلاب زادت حولنا، سألته مستغرباً عن هذه الكلاب، رفع نظارته يمسح زجاجها بكرافتته وقال: «هذه الكلاب بعد الحرب تعودت أكل لحوم البشر»، قلت ماذا؟ أضاف: «في الحرب لم تجد الكلاب في الشوارع غير جثث القتلى»!

في الصباح كانت امام محمد تجربة مخيفة اخرى.. في نفس طائرة الداكوتا الميمونة!

في المطار كان ثمة وفد من الخبراء الرومانيين والمضيف، وتأخر الطيار حتى منتصف النهار، فجن جنون المضيف، وراح يصب غضبه على الفوضى واستهتار الطيارين. وأخيراً فاض صبر المضيف فاندفع نحو المجموعة الرومانية وحدثهم بانجليزية ركيكة قائلاً لهم: هذه طائرة قديمة من زمن الحرب العالمية الثانية، ولا شك ان احدكم يستطيع الاقلاع بها!

وللعجب الشديد، يقول محمد، قال احدهم وهو يضع نظارة سوداء على عينيه ويسند ساعده على كتف زميله «أنا أعرف»، وبعد همهمة وجدل، أخذ المضيف مفتاح الطائرة من مدير المطار وأعطاه للطيار الروماني!.

ثم قال له: لا تحتاج لخرائط في «شبام» مدرج واحد ولا يوجد برج مراقبة.. فقط لا تطر عالياً، طر واطئاً واتبع الطريق المعبد، هناك طريق مسفلت واحد الى شبام.

ثم نظر المضيف الى محمد قائلاً: «هيا لا تخف، هذا احسن من طيارينا»! ركبت الطيارة مع هذا الطيار الذي كان يقود مثلها في الحرب العالمية الثانية، ولعله لم يركبها بعد ذلك الى اليوم.

ارتفعت الطيارة والمضيف يحاول التأكد بين الحين والآخر من ان الطيار لم يخرج عن مساره نحو «شبام».

وفي إحدى هذه المرات نظر من الشباك، فاندفع نحو غرفة القيادة بسرعة، وبعد قليل خرج من الغرفة وهو يصرخ: «لقد تهنا! هذا الحمار ترك المسار، يشرب ويسكي ويقود الطائرة. قلت له ألف مرة لا تترك المسفلت، دخل بين الجبال، بين الجبال!

ليس لدينا بنزين كاف»..

ولا يكمل «محمد» بقية القصة ولا ينهيها.. ولكن يبدو أنه سلم في النهاية!!

عن صحيفة «الوطن» الكويتية 26/9/2006

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى