درس في الشفافية

> «الأيام» فهمي هويدي:

> من عجيب أمر أولئك القوم أنهم يحصون موارد كبارهم، ويعلنون مفرداتها على الملأ أولاً بأول، ويضفون على المال العام حرمة تكاد تبلغ حد التقديس، الأمر الذي يشعر الواحد منا بالغيظ والغيرة والحسد.

(1)

في أعقاب نشر مقالة الأسبوع الماضي عن "النهب المقنن" للمال العام في مصر، فوجئت بموقفين متناقضين من جانب القراء: فريق لم يصدق أن في البلد موظفين يعملون في دواوين الحكومة، يتقاضى الواحد منهم ما بين 150 و300 ألف جنيه في الشهر بالقانون، في حين أن متوسط الراتب الشهري للموظف الجامعي المحترم في حدود 700 جنيه فقط، أما الفريق الآخر فقد استخف بالأرقام التي أوردتها، حتى سألني بعضهم: هل تقصد أنهم يتقاضون المبالغ التي ذكرت في الشهر أم في اليوم؟ اذهلني السؤال الذي ادركت منه أن عالم النهب بلا حدود، الأمر الذي أقنعني بأن مسألة الذمة المالية لكبار الموظفين في الحكومة والمحليات يكتنفها غموض شديد، وهو ما يفتح الباب للغط لا مفر من الاعتراف بأنه ينال من نزاهة الحكم واستقامته، وهو اللغط الذي لا يهدر فقط قيمة "الشفافية" التي لا نكف عن الحديث عنها والتمسح فيها، وانما هو أيضاً ينتقص من صـدقية الممارسة الديمقراطية التي ندعيها لماذا؟

لأن الرقابة الشعبية على التصرفات المالية للسلطة كانت ولا تزال من المقومات الأساسية للعملية الديمقراطية، ذلك أننا نخطئ حين نختزل الديمقراطية في المشاركة السياسية، ونغفل عنصري الرقابة والمساءلة. ودارسو القانون الدستوري يعرفون جيداً أن "الماجنا كارتا" (الوثيقة العظمى) التي اعتبرت أهم وثيقة في تاريخ الديمقراطية الغربية هي التي اطلقت مبدأ "لا ضريبة الا بالقانون". وكان اقرار ذلك المبدأ من ثمار ثورة "البارونات" في انجلترا ابان القرن الثالث عشر، لتقييد سلطة الملك في فرض الضرائب على الناس. ومنذ ذلك الحين لم يعد بوسع الملك أو أي سلطة حاكمة أن تفرض ضريبة على الناس إلا اذا وافق ممثلو الشعب المنتخبون في البرلمان على إصدار قانون خاص بها. وبمضي الوقت استقرت في التطبيق الديمقراطي تقاليد ممارسة الرقابة الشعبية على اوجه انفاق المال العام، التي تعد الضرائب المدفوعة من الناس أحد المصادر الأساسية لها. وكان طبيعياً في كل ذلك التطور أن تمتد الرقابة لتشمل الذمة المالية لأركان السلطة، باعتبار أن الأموال التي يتقاضونها من حصيلة عرق الناس.

(2)

في الوقت الراهن، بوسع أي مواطن أو فضولي في الدولة الديمقراطية أن يطلع على كل الحالة المالية لكبار المسؤولين في بلده، وفي أي بلد مماثل، فيعرف كم يتقاضى كل واحد منهم راتباً شهرياً، وما هي موارده الأخرى، سواء كانت عقارات أو أسهماً أو مقتنيات فنية. وربما يذكر البعض أنني قبل سنتين نشرت قائمة بمفردات الوضع المالي للرئيس الفرنسي جاك شيراك، نقلاً عن الصحف الفرنسية، تبين منها أن كل ثروة الرجل لا تتجاوز 6.1 مليون دولار، مفرداتها كما يلي:

شقة في باريس مساحتها 114متراً مربعاً تملكها في عام 1982، وقدرت قيمتها بـ 400 ألف دولار، وقصر في ساران بوسط فرنسا اشتراه في عام 69 وقدر ثمنه بمبلغ 240 ألف دولار، ومنزل ريفي في "كوريز" ورثته زوجته عام 73 ثمنه الآن نحو 80 ألف دولار، ويملك الزوجان قطع أثاث وتحفاً فنية قدرت شركات التأمين قيمتها بما يعادل 150 ألف دولار. أما رصيد الرئيس شيراك في البنك فهو 69 ألف دولار، ولزوجته رصيدها الخاص وقيمته 37 ألف دولار، وآخر مبلغ دفعه الرئيس شيراك للضرائب عن تلك الثروة هو 2741 دولاراً.

من خلال "الانترنت" تتبعت الأجور السنوية التي يتقاضاها رؤساء الولايات المتحدة منذ أنشئ أول برلمان فيها عام 1789 حتى الآن، وعرفت أن أول رئيس أمريكي "جورج واشنطن" كان راتبه السنوي 25 الف دولار (531 ألفاً بالسعر الحالي)، ولأنه كان ثرياً فقد اعتذر عن عدم قبول الراتب. وعلمت أن الرئيس كينيدي فعلها أيضاً، لكنه تبرع براتبه للجمعيات الخيرية. أما الرئيس الحالي جورج بوش فان راتبه السنوي 441 ألف دولار، ولكنه في العام الماضي حقق دخلاً يعادل ضعف راتبه أي 800 ألف دولار من ممتلكاته الخاصة، أما أرباح نائبه ديك تشيني عن ممتلكاته الخاصة فقد تجاوزت أرباح الرئيس، حيث حقق مليون دولار في السنة نفسها.

منذ حين احتفظ بقصاصة بريطانية استعرضت مصروفات الملكة اليزابيث عن عام 2003، حيث كانت على النحو التالي: الهواتف: 774 ألف جنيه استرليني (زيادة 12% عن العام السابق)، الكهرباء: 330 ألف جنيه (زيادة 2 في المائة)، الغاز: 309 آلاف جنيه (نقص 7 في المائة). المياه: 246 ألف جنيه (نقص 7 في المائة)، التغذية: 534 ألف جنيه (زيادة 5.7 في المائة)، لوازم المائدة: ألف جنيه (نقص 90 في المائة)، حفلات الحديقة: 442 ألف جنيه، صيانة المركبات الملكية: 41 ألف جنيه (زيادة 8 في المائة)، العناية المنزلية: 221 ألف جنيه (نقص 5.7 في المائة)، الأدوات الكتابية والطباعة: 165 ألف جنيه (زيادة 12 في المائة)، تأثيث وتصليحات: 142 ألف جنيه (زيادة 22 في المائة)، أعمال الكمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات: 182 ألف جنيه (زيادة 435 في المائة). أزياء وملابس: 85 ألف جنيه (زيادة 1 في المائة) لاحظ أنها أقل نسبة زيادة، زهور: 24 ألف جنيه (زيادة 25 في المائة)، هدايا رسمية: 27 ألف جنيه (زيادة 92 في المائة).

أثار انتباهي في هذا السياق تقرير أعدته لجنة بمجلس العموم عن الأوضاع المالية للأمير تشارلز، واسباب ارتفاع دخله بنسبة 20% عن العام الماضي. وما إذا كان عليه أن يدفع أم لا ضرائب عن تلك الزيادة، وكانت اللجنة قد طالبته بتقديم كشف عن انفاقه على السيدة كاميللا وولديها قبل زفافهما، وطلبت وزارة الخزانة تحديد الضرائب التي يتعين عليها دفعها بعد الزواج.

هذه الشفافية تمتد في بريطانيا لتشمل اعضاء مجلس العموم واللوردات، الذين يطالبون بأن يصرحوا مرة على الأقل سنوياً بكل "بنس" تقاضوه فوق رواتبهم الرسمية، على أن يدون ذلك في "سجل مصالح الأعضاء". وفي سجل العام الماضي مثلاً أقر رئيس الوزراء بأنه اثناء قضاء إجازه نهاية العام في مصر، سافر الى الأردن وتجول مع عائلته على نفقة الملك عبد الله الثاني، وأقر جاك سترو وزير الخارجية آنذاك بأن شركة الطيران البريطانية قامت بترفيع بطاقتي سفره الى بوسطن هو وزوجته من الدرجة السياحية الى الدرجة الأولى بغير مقابل.

(3)

ترتفع وتيرة الشعور بالغيرة والحسد حين يدرك المرء أن الأمر لا يختلف كثيراً في الديمقراطيات الآسيوية، إذ من خلال الموقع الخاص بوكالة البلاط الامبراطوري الياباني على شبكة المعلومات العالمية "الانترنت" يستطيع أي شخص أن يتعرف إلى موارد وأوجه انفاق كل واحد من أفراد الأسرة العريقة التي تحكم البلاد منذ ثلاثة آلاف سنة، ذلك الى جانب سيرته الذاتية وأنشطته واهتماماته المختلفة. ويشير الموقع الى أن مصروفات العائلة في ميزانية 2006 قدرت بمبلغ 66.10 مليار ين، وهو مبلغ يقل عن 100 مليون دولار، وهذه الميزانية تتوزع على بندين، أولهما الانفاق المباشر على افراد العائلة، وقد خصص له 6.273 مليون ين، تعادل أقل من 50.2 مليون دولار، بواقع 5.30 مليون ين لكل فرد، تعادل 300 ألف دولار في السنة. البند الثاني يخص مصروفات العاملين في الوكالة الامبراطورية اليابانية، والميزانية الخاصة بالاحتفالات والاستقبالات والمهمات الخارجية والداخلية التي يقوم بها افراد الأسرة، من الامبراطور الى زوجته وأولاده وأحفاده. وأي أنفاق يتجاوز هذه الحدود لا يتم الا بموافقة البرلمان، وهو ما حدث قبل عامين، حين توفي الأمير تاكامارو ابن عم الامبراطور، ولم يكن في الميزانية رصيد يمكن الانفاق منه على جنازته، فاجتمع البرلمان في ذات اليوم لهذا الغرض، ونشرت صحف اليوم التالي خبر الوفاة والى جانبه قيمة المصروفات التي تقررت للجنازة.

الأمر ذاته وجدته في كوريا الجنوبية، فقد نشرت صحيفة "جونج انج" التي تصدر في العاصمة "سيئول" تقريراً عن ثروة الرئيس "روه مو هيون" بعد ثلاثة أعوام من توليه السلطة، عرف الجميع منه أن القيمة الاجمالية لممتلكاته هو وأسرته في عام 2003 كانت 468 مليون ون، تعادل أقل من نصف مليون دولار، وفي فبراير من العام الحالي اصبحت قيمة ثروته هو وأسرته 820 مليون ون، أي أقل من 900 ألف دولار. وأرجعت الصحيفة سبب زيادة ثروة الرئيس الكوري خلال السنوات الثلاث الى أمرين، أولهما ما استطاع أن يوفره من عائد وظيفته الشهري، وثانيهما أنه استثمر بعض أمواله في البورصة، وحقق من وراء ذلك ربحاً مجزياً بلغت قيمته 94 مليون ون، تعادل نحو 97 ألف دولار.

(4)

مثل هذه التقاليد الرائعة لم تستقر في مجتمعاتنا العربية المعاصرة، التي تتحدث عن الشفافية بأكثر مما تمارسها، حتى غدت أزمة الشفافية من تجليات أزمة الديمقراطية، ومن ثم فإن الغموض الذي يكتنف صناعة القرار السياسي بسط جناحيه على الذمة المالية لكبار المسؤولين، حتى جاءت النتيجة على النحو الذي كشف عنه تقرير جهاز المحاسبات.

لقد تحدثت مأثوراتنا الشعبية عن "تراب الميري"، وكان ذلك في زمن لم يعرف فيه نعيم الميري، الذي في ظله "يولد المسؤول من جديد" حين يمكن من موقع يشرف على مصادر الثراء التي يتدفق منها المال السائب بلا حساب. ونماذج هؤلاء الذين دخلوا على المنصب على هيئة معينة وخرجوا اشخاصاً آخرين تعددت حتى أصبحت أكثر من الهم على القلب ولدى القريبين من ساحة العمل العام والشرفاء الذين خرجوا من السلطة كما دخلوا، قصص تذهل السامع، وتقنعه بأن قانون من أين لك هذا، قد انمحى ولم يعد له وجود، تماماً مثل القوانين التي تقرر الحد الأقصى للأجور.

عندي في هذا السياق قصة كنت شاهداً عليها، إذ في الحي الذي أسكن فيه مصر الجديدة قدر لأحد سكان شقة في الطابق الثالث من عمارة تبعد عن بيتي بمسافة 500 متر أن يصبح وزيراً. وشاءت المقادير أن يسكن بعيداً عنه بسبعمائة متر في شقة بالطابق الثاني مسؤول تقلب في وظائف الحكومة حتى صار رئيساً للوزراء. وما لاحظناه نحن سكان الحي أن الأول بعد توليه الوزارة حقق قفزات هائلة في سلم الثراء، فانتقل بقدرة قادر خلال أقل من عام من الشقة الى قصر صغير ثم الى قصر كبير، ثم باع القصرين بما لا يقل عن 40 مليون جنيه، وشرع في بناء قصر ثالث سينتقل اليه بعد العيد، أما الثاني، رئيس الوزراء ورئيسه، فانه ظل مستورا في مسكنه المتواضع، وغاية ما قدر عليه أنه قام بتنجيد الأثاث وبياض الشقة، واقترض لهذا الغرض 15 ألف جنيه، سددها فيما بعد. ولم تكن هذه هي المفاجأة الوحيدة، لأن الأول صعد نجمه واستمر أما الثاني فقد انطفأ نجمه في الاعلام ولم يعد له ذكر!. ولا تعليق لي على القصة، التي هي قطرة في بحر، وإنما اتركها بين يديك لكي تتسلم منها الرسالة، وتستخلص الدرس والعبرة، علك تضـيف الحـزن الـى الشعور بالغيرة والحسد.

في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام أنه أوفد مبعوثاً الى البحرين ليقوم على أمر الناس، ولما عاد الى المدينة بسط ما حصله بين يديه قائلاً: هذا لكم وهذا أهدي الي.. وهو ما أغضب النبي فخطب في الناس قائلاً: «ما بال الرجل نوليه العمل مما ولانا الله، فيرجع فيقول هذا لكم وهذا أهدي إليّ، هلا قعد في بيت أمه، فنظر أيهُدى اليه أم لا؟».

ترى، لو القينا السؤال على كل من تولى منصباً وخرج منه بغنائمه، ماذا تكون النتيجة؟

عن صحيفة «الخليج» الاماراتية 26/9/2006

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى