من مقاصد الصيام وأسراره

> «الأيام» جمال محمد الدوبحي:

> ها نحن - بفضل الله - نعيش أريج أيام رمضان العطرة ونحيا لياليه الغامرة والعطاء ونحن نرفل بثياب الصحة والعافية وبحياة آمنة ومستقرة.

وكم نحن بحاجة إلى هذا الشهر الكريم الذي نجتني فيه أزهى أيام العمر بالتقرب إلى مرضاة الله المولى جل في علاه لنستأنف حياة جديدة متدفقة بالزكاء والنبل بعدما غمرتنا الماديات واستحكمت علينا الشهوات واعترانا الفتور واسترسلنا في اقتراف الذنوب والآثام.

وصيام رمضان من أعظم ما يعين على تربية الإرادة الحازمة والعزيمة الصادقة التي تكسر غوائل الهوى وترد هواجس الشر وتقمع الشهوات وتزكي النفس وتوقفها عند حدود الله تعالى، فلا تذل لشهوة أو تُسترق لنزوة، والناظر ببداهة فهمه واتزان نظره إلى مقاصد الصيام وأسراره يجد أن الكثير منا قد خالف حكمة الصوم وجافى أصل مشروعيته، وما ذلك إلا لقصور فهمنا لهذه الشعيرة التي حصرناها في الإمساك عن الطعام والشراب والمفطرات الحسية، بينما تركنا جوارحنا سائمة في مراتع الغيبة والنميمة والبغي والبهتان والشائعات والأراجيف والمكر والخداع وأكل أموال الناس بالباطل وغيرها من أنواع الذنوب والعصيان، فمن كان هذا شأنه في حال صيامه فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، بل إن حظه من الصيام الجوع والعطش كما أخبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».

وقد أحسن القائل حين قال:

إذا لم يكن في السمع مني تصاون

وفي بصري غض وفي منطقي صمت

فحظي إذاً من صومي الجوع والظما

فإن قلت إني صمت يومي فما صمت

وسر هذا أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب بترك المباحات كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل، وإن كان صومه مجزئاً عند الجمهور بحيث لا يؤمر بإعادته، لأن العمل إنما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه لخصوصه، دون ارتكاب ما نهي عنه لغير معنى يختص به.

وفي مسند الإمام أحمد: أن امرأتين صامتا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكادتا أن تموتا من العطش، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض، ثم ذكرتا له فدعاهما فأمرهما أن يتقيآ، فقاءتا ملء قدح قيحا ودما وصديدا ولحما عبيطا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يأكلان لحوم الناس».

ومما يخالف حكمة الصوم ولا يتفق مع غايته خمول وكسل بعض الصائمين لا سيما من الشباب والفتيات الذين يقطعون النهار بالنوم ملء الأجفان ويبددون الليالي بذرع الطرقات والتسكع في الأسواق والمجمعات التجارية والسهر على الفضائيات الفاضحة ومشاهدة المجون، بينما الأصل في هذا الشهر الكريم أنه موسم العطاء والمثابرة والجد والعمل والقوة والبطولات والعفة والعزة والكرامات وليس شهر الضعف والكسل والنوم، والمتأمل في أحوال المسلمين الأوائل يجد أنهم عاشوا رمضان بقلوبهم ومشاعرهم فجعلوا من أيامه ولياليه دورة زمنية قوية خيرة تقودهم إلى تحقيق الذات والنصر بيقين وثبات.

ومن أعظم مقاصد الصيام وأسراره تلك الومضة الرائعة من ومضات الأسلوب القرآني البديع التي ختم الله بها آية الصيام والمتمثلة في قوله تعالى: {لعلَّكم تتَّقون} (البقرة 183)، فالتقوى أجلُّ المقاصد التي تنوّرها الشارع الحكيم من الصيام وأمّلها صفة راسخة في الصائمين، تضيء دروبهم وتندي بالبصيرة قلوبهم، فهي في الدنيا بريد سعادتهم وفي الآخرة رائد الحسنى لهم.

فهذه بعض من مقاصد الصيام التي تثمر تطهير القلب من الأحقاد والمآثم والشرور والتي أردت من خلالها تذكير الصائمين بها لتحقيق التزكية الروحية والتصفية النفسية لتتغذى جوارحهم بنفحاتها، حتى تتحرك جميعها كما أراد لها ربّها وخالقها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى