كتاب: بريطانيا هربت من الجنوب على ظهر حاملة طائرات

> «الأيام» فاروق لقمان:

>
مروحية على سطح حاملة الطائرات البريطانية (إيجل) وأخرى في المؤخرة مع ثلاث من قطع البحرية الملكية البريطانية لدى مغادرتها سواحل عدن
مروحية على سطح حاملة الطائرات البريطانية (إيجل) وأخرى في المؤخرة مع ثلاث من قطع البحرية الملكية البريطانية لدى مغادرتها سواحل عدن
أعدت القناة الرابعة البريطانية برنامجاً وثائقياً في الثمانينات عن الإمبراطورية التي دامت قرابة ثلاثمائة عام وامتدت يوماً ما من أقصى الشرق إلى ما يسمى حالياً الولايات المتحدة ومن هونج كونج إلى شبه القارة الهندية بكل ما فيها من ثروات وإلى عدن وقبرص ومالطا وجبل طارق بقواعدها لحراسة الطرق البحرية.

أوكلت القناة اعداد المادة والسيناريو إلى الصحافي نيال فرجوسن المعروف باهتماماته التاريخية.

ولما كنت أيامها في لندن اتصل بي في فندق كارلتون الذي يسمى اليوم «حياة كارلتون» بعدما عرف عنواني من مكتبي في جدة، والتقينا لساعتين تعرفت خلالها على المهمة الموكولة وعن رغبته في تسجيل آخر أيام بريطانيا في الجنوب اليمني المحتل آنذاك لأنها حكاية غريبة في حد ذاتها فهي المستعمرة الوحيدة التي تركتها لندن عام 1967م بدون تسليم مقاليدها لأحد. حدث مثل ذلك فقط بالنسبة لفلسطين عام 1948م إذ تركتها بريطانيا لقمة سائغة ليهود أوروبا.

فرقة من الجنود البريطانيين اثناء مغادرتهم عدن عن طريق المطار
فرقة من الجنود البريطانيين اثناء مغادرتهم عدن عن طريق المطار
استولت القوات المسلحة الجنوبية على ما كان يسمى بالمحميات أي السلطنات والمشيخات التي كانت لا تمتلك قوات خاصة بها باستثناء بعض الوحدات الصغيرة في لحج وأصغر منها في بيحان.

قال لي المؤلف إن دراسته لتاريخ احتضار الاستعمار أثبتت له أن بريطانيا كانت لا تمتلك خطة محددة في عدن سوى للخروج أو الهروب بأسرع وقت ممكن وبعدها الطوفان، كما قد يحدث في العراق وأفغانستان حالياً.

ومرت عدة سنين التقيت خلالها ببعض البريطانيين الذين كانوا يعملون في عدن وعرفتهم بحكم المهنة الصحافية فأكدوا لي في لندن ودبي ومسقط، أن لندن لم يكن همها سوى الانسحاب بأقل عدد ممكن من الخسائر في الأرواح والمعدات.

السير همفري تريفليان آخر مندوب سامي بريطاني (حاكم) في عدن وهو يلوح للطائرات المروحية لدى مغادرتها عدن
السير همفري تريفليان آخر مندوب سامي بريطاني (حاكم) في عدن وهو يلوح للطائرات المروحية لدى مغادرتها عدن
لذلك استقدموا حاملة الطائرات «هرميس» التي رست على بعد أميال من الشواطئ بحيث كان يراها آخر الحكام السير همفري ترفلين، من سطح بيت الحكومة في التواهي المشرف على الساحل الذهبي الذي كنا نسميه خطأ جولد موهر، لا علاقة للاسم بالساحل الذهبي فهي كلمة هندية واحدة متصلة تعني نوعاً من الورد، فلما هبط الجنود الهنود من السفن الغازية إلى ساحل صيرة وعرجوا على التواهي أعجبهم الشاطئ البلوري البديع فأطلقوا عليه اسم واحدة من أروع ورودهم.

وعلى حاملة الطائرات وضع القائد العام كل ما تبقى من قوات كانت مرابطة في المستعمرة بعد الانسحاب من قواعدها في المحميات وخورمكسر والتواهي وعشرة ألف طن من الذخيرة مع أسلحتها لو انفجرت لأي سبب كان لدمرت عدن بالكامل وأهلكت من فيها لكن الله سلم.

آخر دفعة من جنود البحرية الملكية البريطانية لدى مغادرتهم منطقة المملاح بخورمكسر بعدن على مروحية تقلهم الى حاملة الطائرات
آخر دفعة من جنود البحرية الملكية البريطانية لدى مغادرتهم منطقة المملاح بخورمكسر بعدن على مروحية تقلهم الى حاملة الطائرات
وتساءلت عن أسباب انهيار السياسة البريطانية بالنسبة للجنوب وكيف لم تطبق خطة شبيهة بما فعلته في بقية مستعمراتها بدرجات متفاوتة من النجاح- من الملايو التي أصحبت الآن تعرف باسم ماليزيا - إلى قبرص رغم ما حدث لها بعد ذلك نتيجة للغزو التركي عام 1974م لحماية السكان الأتراك من عسف الأغلبية بعد الانقلاب العسكري المفاجئ في أثينا الذي أطاح بالملك. فأجابوا وانعكس ذلك في المسلسل الذي بثته القناة الرابعة ثم الكتاب الموسوم «امبراطورية» للمؤلف فرجوسن أن الأوضاع الناجمة في الجنوب إثر اندلاع الثورة في الشمال مع الوجود العسكري المصري الكثيف حتى 1967م وضعف حكومات المحميات ونزعة الدويلات الشرقية في حضرموت إلى الاستقلال التام تآلبت ضد بلورة خطة بريطانية يمكن تطبيقها بنسبة معقولة من النجاح كما حدث في المستعمرات الافريقية إلى حد ما.

أضف إلى ذلك أن الجنوب كان يفتقر إلى جبهة مقاومة موحدة على نطاق شعبي كامل بل كان العكس هو الصحيح. كانت هناك عدة جبهات منها الجبهتان المعروفتان واحدة تؤيدها مصر واليمن وأخرى أيدتها القوات المسلحة الجنوبية والثالثة لم تكن حركة مقاومة يحسب لها حساب ضمت السلاطين، والرابعة والخامسة والسادسة سلطنات حضرموت، القعيطية والكثيرية والمهرة مع سقطرى، لذلك كان مؤتمر جنيف أيسر الطرق للهروب من عدن بأقل التكاليف، لأن بريطانيا تملصت بعد أشهر من التزاماتها المالية ومنها عشرة ملايين جنية استرليني لدعم الميزانية لفترة محدودة.

إنزال العلم البريطاني مع غروب يوم 29 نوفمبر 1967
إنزال العلم البريطاني مع غروب يوم 29 نوفمبر 1967
وبظهور الكتاب وعرض الحلقات كانت الاوضاع في الجنوب اليمني قد انقلبت رأسا على عقب وإن كان بعض المحللين قد توقعوا ما سيحدث في عدد من الكتب والمقالات التي صدرت قبل وبعيد الاستقلال. أول حركة انقلابية عسكرية وقعت بعد الاستقلال بمائة يوم فقط، الجبهات المعروفة انقرضت والقوات المسلحة تفككت والخزانة أفلست والقوات المصرية تركت المنطقة بنهاية 1967م وبرزت حكومة يمنية قوية في الشمال تغلبت على أهوال لم تكن في الحسبان منها دحر الجبهة الملكية بدون دعم خارجي في حين كان المراقبون يخشون على اليمن من التفكك. وتحققت الوحدة بين الشطرين عام 1990م وتم انقاذها عام 1994م واشتد ساعدها وقويت مكانتها وطنياً وإقليمياً ودولياً. وإن شاء الله تعالى سنراها قريباً تحولت إلى «جولد موهر» عاطر فواح أروع من مشموم الشيخ، وفل الحوطة وكاذي الحسيني.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى