رئيس تحرير القناة الفضائية اللبنانية «إل بي سي» لـ «الشرق الأوسط»:يعتبر أن قنوات عدة فقدت هويتها بين السياسة والتجارة والإعلام اللبناني خطر على لبنان

> «الأيام» عن «الشرق الأوسط»:

>
جورج غانم
جورج غانم
نشرت صحيفة «الشرق الأوسط» في عددها الصادر أمس حوارا مع رئيس تحرير القناة الفضائية اللبنانية (إل بي سي) أجرته الزميلة سناء الجاك، في مايلي نص الحوار:رافق الاعلامي اللبناني جورج غانم المؤسسة السياسية للإرسال (إل بي سي) منذ مرحلة التأسيس وصولا الى تولي مسؤولية رئاسة تحرير نشرة الاخبار والبرامج السياسية. لا يجد نفسه في وسيلة اعلامية ثانية، مع اقراره بأن الصحافي يجب أن يفصل بين هويته المهنية الخاصة وهوية المحطة التي ينتمي اليها. عادة يفضل غانم البقاء بعيدا عن استضافة الاعلام له.

وبعد مسيرة مستمرة منذ 28 عاما تكاد تعد المقابلات التي قبل «الخضوع» لها على أصابع اليد الواحدة. لكن بقاءه في «المطبخ» الاعلامي بعيدا عن مفاهيم الشهرة والنجومية السائدة حاليا لم يحل دون ملاحظة بصمته الخاصة في خضم تناقضات الساحة الاعلامية اللبنانية وتحدياتها وصراعاتها التي تناله شخصيا عند كل تجاذب تتعرض له الـ«إل بي سي» وآخرها كان يشير الى تغيير مرتقب في سياسة المحطة يصار من خلاله الى الاستغناء عن خدماته.

لكن غانم لا يتوقف كثيرا عند هذه الشائعات لأنه خبير في الاعلام اللبناني وماهر في قراءة ما وراء الخبر، فهو من رعيل عاش تجارب وتقلبات صاغت الحياة السياسية والاعلامية ابتداء من الحرب الاهلية عام 1975 وصولا الى «الاصطفاف الخطير في وسائل الاعلام الذي يهدد لبنان»، كما وصفه. وفي ما يلي نص الحوار الذي أجرته «الشرق الاوسط» معه في بيروت:

> بدأت مسيرتك الاعلامية في أجواء لبنانية ساخنة.. كيف كانت البدايات؟

ـ لم أكن بعيدا عن السياسة في بيئتي. وعندما اندلعت الحرب كنت في المرحلة الدراسية الثانوية. في تلك الفترة كنت أرى الاحداث بإطارها الأكبر والاقليمي. ربما بسبب بيئتي وتجربتي وحبي وفضولي لفهم ابعاد ما يحدث. وفي هذا الجو استهواني الاعلام ليس كهدف مهني وانما كهواية. كنت قد خططت لاختصاص يعتمد على الكيمياء، لكن حرب المئة يوم في العام 1978 عطلت الدراسة. تأسست إذاعة «لبنان الحر». التحقت بها لأني اساسا أحب هذا الجو وتحولت الهواية الى مهنة. هكذا بدأت. درست الحقوق وتابعت عملي وتطورت الحرب وانخرطت في العملية من خلال الصحافة السياسية. حتى كان قرار تأسيس تلفزيون المؤسسة اللبنانية للإرسال. المشروع كان مطروحا في العام 1980 والتحضيرات له استمرت حتى 1982 وكنت من المشاركين فيها. ثم توقف المشروع، ليتقرر في العام 1985 اطلاق المحطة. حينها كنت قد قررت أن أغادر البلد، لرغبتي آنذاك في الانتقال الى مرحلة جديدة في حياتي المهنية. لكن الوزير السابق كريم بقرادوني قال لي حينها: ماذا تريد؟ انتهيت من دراسة الحقوق وبإمكانك التدرج في مكتبي ومواصلة العمل في المحطة. واذا لم يعجبك الامر تترك وتذهب. وهكذا كان. أخذتني الظروف وتابعت. صحيح اني أحب هذه المهنة، لكن من يدخل الى مجاهلها يكتشف أمراضا كثيرة لا يراها من ينظر اليها من الخارج. لذا عندما يأتيني احد المبهورين بالعمل الصحافي التلفزيوني انصحه بالتروي للتعرف عن كثب الى المهنة.

> ألا تعتقد ان المقبلين على الاعلام حاليا لا يرغبون في أكثر من الظهور والشهرة؟

ـ في الماضي كان هناك الرواد والمؤسسون الذين يعتبرون الاعلام فكرة ودورا سياسيا ورسالة. اليوم تغيرت الامور. على أي حال أنا ارى أن تعميم لفظة الاعلام خطير. لا أعرف ماذا يقصدون. اليوم تحولت وسائل الاتصال الى أفيون للشعوب. الناس مخدرة حاليا بالاعلام. كل الجيل الجديد لا يرى في الصحافة الا الظهور والشهرة. ومن خلال ذلك تحقيق اهداف مختلفة اما مادية او غير ذلك. ويعتبرون انها مهنة سهلة. مع الاسف لم تعد تسمية «مهنة البحث عن المتاعب» صحيحة. صارت «مهنة البحث عن الشهرة». وقد تكرس مفهوم مبني على الخطأ. والسبب الأساسي تعميم ثقافة التلفزيون التي يقع ضحيتها السياسيون والاعلاميون. بمعنى ان التلفزيون او الاعلام بشكل عام يتعامل مع سلعة وليس فكرة. والشخص الذي يشكل بضاعة هذه السلعة لا يفترض ان يكون حكيما وانما نجما. حتى السياسي اليوم لا يمكن ترويجه تلفزيونيا اذا لم يكن نجما. ففي البرامج الحوارية يصار الى اختيار نجوم السياسة الذين يرفعون نسبة المشاهدة ونسبة الاعلانات. بالتالي تحولنا من اعلام التفكير الى اعلام الترفيه. وتحولنا من اعلام الفكرة الى اعلام السلعة.

> لماذا تلغي الفكرة لحساب السلعة؟ ألا ترى ان الاعلام اللبناني يبيع الفكرة التي يريد ويروجها بعد تسليعها بما يحقق أهداف سياسته الاعلامية؟

ـ في السياسة، المحطات تذهب الى التسويق المباشر للزعيم وتقديسه. الامر الذي يحوّل وسائل الاعلام الى جهاز دعاية للجهة التي تمولها. وهناك القسم الآخر وهو القسم التجاري المرتبط بالبرامج غير السياسية. ومن خلاله يتم بيع السلعة. والامور متداخلة ببعضها بشكل يؤمن التقاء المصالح واستثمارها بعيدا عن الهدف الاعلامي بحد ذاته. الامر هذا لم يكن يحصل في السبعينات. آنذاك كانت وسائل الاعلام في لبنان تجارية. ولكن لم تعتمد الدعاية والتجارة والترويج للشخص هدفا وحيدا. كانت وسائل الاعلام منبرا للافكار على تضاربها وتناقضها يديرها قائد واحد بارع في الحفاظ عليها. حتى في التسعينات كان لدينا نوع من الفيدراليات الاعلامية التي صاغها قانون الاعلام وصاغتها الوصاية السياسية السورية التي كانت تتولى البلاد. ونشأت مجموعات سياسية تجارية متداخلة لا يمكن الفصل بين التجارة والسياسة فيها. الآن اختلف الامر. هناك اصطفاف آخر في البلد. السياسة مفروزة من جهة ومن جهة ثانية هناك المصالح التجارية الاخرى التي تشتري البرامج من الخارج او تنتجها وتبيعها.

> هل يمكن القول في المرحلة الحالية ان هناك اقساما مستقلة تماما عن بعضها البعض في كل وسيلة اعلامية؟ وكل قسم يؤدي وظيفته من دون سياسة اعلامية موحدة، ما يؤدي الى انفصام في الشخصية الاعلامية للمحطة؟

ـ حسب الوسائل الاعلامية. تلفزيون المنار التابع لـ«حزب الله» هو كتلة واحدة. الادارة غير منفصلة عن الاقسام والمردود التجاري لا أهمية له. لها هدفها السياسي الذي يفرض عليها توجهاتها، حتى في البرامج تسعى الى ايصال رسالتها الايديولوجية بمعزل عن الخبر والامانة في نقل الصورة. اما المحطات الاخرى التي تصنف وسائل اعلامية عامة، منها «ال بي سي» و«المستقبل»، ففيها دمج بين التجارة والسياسة ما يؤدي الى ضياع هوية المحطة. هل هي وسيلة اعلام تقدم الخبر وتنقل الصورة كاملة؟ مع الاسف ما نراه اليوم وفي كل وسائل الاعلام اللبناني تقديم للرأي على الخبر بنسبة كبيرة، واستنادا الى المصادر كل خبر يخدم الوسيلة من دون توقف عند مصداقيته، علما أني بما أملك من سلطة معنوية أسعى مع فريق العمل في الـ«ال بي سي» لنحافظ بالحد الادنى وقدر الامكان على الموضوعية والمهنية.

> كيف يستطيع الاعلامي أن يحصن نفسه في هذا الجو الاعلامي السائد ليحافظ على مهنيته ولا يتحول الى أداة لسياسة المحطة؟

ـ يجب على الاعلامي ان يملك الكثير من المناعة الذاتية ليستطيع تحصين نفسه أمام الاغراءات والهجمات. اولا هناك النواحي المالية. اليوم المال حتى في وسائل الاعلام له الكلمة الفصل. فالتعامل مع الاعلامي ينطلق من المعطيات المالية التي سيعود بها عمله على الوسيلة وينطلق ايضا من مدى تقبل الجمهور له. يجب الاخذ بعين الاعتبار بالمكونات السياسية والتجارية المتناقضة التي تتحكم في وجوده المهني. وفي خضم هذه المعادلة على الاعلامي ان يبقى موضوعيا، مع اني لا أعرف ما هي الموضوعية في ظل هذه الاقتناعات والاغراءات والصراعات. لذا احاول على قدر المستطاع ان احافظ على الموضوعية.

> كأنك تقول إن الاعلام يشكل تهديدا للبنانيين حاليا؟

ـ انا ارى ان الاعلام اللبناني حاليا يشكل خطرا على لبنان. هو اليوم اكبر من البلد واكبر من قدرته على التحمل. استخدام وسائل الاعلام بهذا الشكل خطير جدا.

> هل يتطلب الأمر رقابة ذاتية مستمرة؟

ـ عندما نقول رقابة نجد أن الامر غير مقبول. وانما المفروض ان نعتمد على قدرة المسؤول على التمييز بين الخطر والاخطر. بين الحقيقة المفيدة وبعض الحقائق التي لا فائدة من نشرها. كمية الامراض التي يظهرها الاعلام ويفرزها يوميا خطيرة جدا ولا يستطيع لبنان تحملها. هناك تفلت كامل وليس هناك حد ادنى من الضوابط لا في القانون ولا في غيره. تحول الاعلام اللبناني الى منابر ضيقة.

> ألا ترسم صورة متشائمة جدا للوضع الإعلامي اللبناني؟

ـ ما يحصل في لبنان حاليا مع الاسف هو اعتبار الصحافة مهنة تقود صاحبها الى حيث يرغب، جيدة شرط ان يتخلى عنها، كأنها معبر للوصول الى مناصب أخرى. بعض الزملاء يريدون ان يصبحوا ابطالا من خلال العمل الصحافي او ان يعبروا منه الى السياسة او الاعمال. وكأن الاعلام منبر لابداء الرأي للعاملين فيه وليس مكانا مهنيا.

> تطرح المهنة وكأنها متعبة جدا، هل تفكر بتركها؟

ـ في كثير من اللحظات فكرت ان ابتعد. ولكن في النهاية هناك اعتبارات كانت تعيدني. لديّ مسيرتي المهنية في هذه المحطة، كنت الصورة الاولى التي ظهرت على شاشتها وبالتالي لا أشعر اني استطيع أن أتخلى عنها. اشعر اني سأخسر من مصداقيتي. هي انتمائي بشكل ما ولا أجد نفسي بعيدا عن الموقع الذي بنيته بتراكمات عبر السنوات. أنا أعرف هذه المحطة بكل تناقضاتها وصراعاتها وانقساماتها في جميع مراحلها. وأعرف مكاني فيها.

> ما هو موقفك عندما تنشر بعض الصحف أخبارا عن ابعادك عن الـ«ال بي سي» بسبب الصراعات السياسية، كما حصل أخيرا؟

ـ لا أرد على هذه الاخبار ولا أتأثر بها ابدا. لأني أعرف الحقيقة وأعرف الهدف من نشر هذه الاخبار. وعلى الأقل أعرف عن نفسي. أعرف وضع المحطة السياسي والمهني والبشري، لذا حاولنا أن نحافظ على هامش يجمعنا، يضيق احيانا ويتسع أحيانا، وأنا اعتقد أن كل الصراعات والضغوط لن تمنع الوصول الى نقطة وسط لنتابع عملنا.

> ألا تخاف من الوصول الى طريق مسدود مع ادارة المحطة؟

ـ لا. اولا انا اضع الاسوأ دائما نصب عينيّ. وثانيا التجاذبات تعكس حالة صحية. هكذا هي الحياة: مجموعة من الصراعات والقناعات المتناقضة. بدونها نصبح في حالة موت. ولكن عندما اختلف مع الادارة على كل شيء حينها لكل حادث حديث.

> انجزت عددا من البرامج الوثائقية التي تركت أثرها في الساحة الاعلامية.. ما علاقتك بالوثائقيات وما غايتك منها؟

ـ اولا، قبل الحديث عن عمل اعلامي يميز الصحافي، اقول ان العمل في التحرير له جانب عاق مقابل التعب اليومي الهائل. اضافة الى اني أحب أن اقول بتحليل ما يدور حولي. كما ان الانسان يبحث عن زاوية في مهنته يستمتع بها ويعوض من خلالها عن روتين العمل اليومي. وانا ايضا أحب الارشيف وأحب أن أفهم تاريخ البلد والمنطقة لأفهم ما يجري واتمكن من قراءته بشكل صحيح. وأحب الصورة ويطيب لي أن أعيد ترتيب الحياة بالصور من خلال الارشيف. أشعر كأني أقوم بعمل فني. ولدي في التلفزيون ارشيف غني جدا. استعين به لأكشف تاريخ لبنان واتمكن من إيصال فكرة واضحة عما جرى وما سيجري. فالعمل اليومي يبقيني على تواصل مع الحقيقة والارض، والارشيف يساعدني على فهم اسباب ما يحصل.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى