أحمد الجابري .. وديعة بين قلبين

> فضل النقيب:

>
فضل النقيب
فضل النقيب
الأدباء والفنانون والمفكرون وحدهم القادرون على هزيمة الموت، لذلك تجدهم في مقدمة صناع الحياة رغم أنهم قد يكونون أحياء كالأموات في حياتهم العادية لا الخالدة. إنها المفارقة التي عبر عنها أحد أبطال اليمن الأحرار الذي أُخضِعَ لسيف الجلاد الإمامي لكي يقطع عنقه، فرأى بعض الناس الذين ضحى من أجلهم ينادون بموته مهلّلين ومكبّرين، فقال حكمته الشهيرة:

«أردت لكم الحياة وأردتم لي الموت .. تباً لكم». لاحظ أن الذهاب إلى آخر الشوط حيث الموت بين النطع والسيف كامناً يراقبك من حيثما تتلفت، هو فكرة عظيمة وأغنية جليلة وكتاب مفتوح على الحياة والأحياء، حتى وإن لم يُعبّر عن ذلك صراحة، ذلك أن المصائر ملهمة عندما تكون في سبيل المجموع، وما من خيط كالدم يشد السماء إلى الأرض، كما أنه ما من خيط كالفن يشد الأحياء إلى الأحياء، لا كما تُشدّ الثيران وتُضْمد لكي يستقر النَّيْرُ على أعناقها، وإنما كما تُشد النجوم والأقمار والكواكب بفعل الجاذبيات العظمى التي تُمثّل أعلى صور الحب والتولُّه الكوني، فالكل منفصل، والكل متصل، وتلك وظيفة الفنان أمارسها بوعي أم من دون وعي. وهل تملك النحلة من أمر عسلها شيئاً؟ أو تملك الوردة من أمر عطرها شيئاً؟ وكذلك المبدعون سيموتمون كمداً إن لم يبدعوا ما يبدعون:

الحب في الأرض بعضٌ من تخيُّلنا لو لم نجده عليها لاخترعناه

هكذا يقول نزار قباني، فهو يتطلع إلى الذي يأتي ولا يأتي مما نحن مملوءون به وفارغون منه.

حدثني الأستاذ خالد الرويشان، وزير الثقافة عن تكريم المبدع الكبير أحمد الجابري، نزيل (الراهدة) فلا هو في عدنه التي تربى فيها، ولا في تعزّه التي عشق مغانيها، وأخشى أن يكون قلبه قد نزف من الحنين يوزعه على النازلين والطالعين عبر طريق الحب اليماني المجرّح بين البحر والجبل، وربما كانت الراهدة هي النقطة التي صدح منها الجابري بموسيقى وغناء أحمد قاسم:

عدن.. عدن.. ياريت عدن مسير يوم شاسير به ليلة ما شارقد النوم

***

مر الغمام قالوا عدن قُباله لو بُه جناح شاطير أشوف خياله

أحمد الجابري، أنشودة حب دامعة، وتاريخ إحساس متألق، وأنامل فنان تخُطُّ على غربة الروح أسفار الهوى الضائعة، وانتهاب القساة للقلوب المترعة بالوجدان النبيل:

أعطيت قلبي لمن يسوى ومايسواش كلْ من جهش له وخَذْ من لوعتي مِجهاش

كلّي أنا حب مثل الطير له أرياش لاحَب حلّق بنى في داخلي أعشاش

***

غنيت ليل الهوى واسعدت كل الناس وزّعت حبي لهم واسقيتهم أنفاس

لاحَسّ حد بالظما خَذ من فؤادي كاس الحب ذا مذهبي.. والفن عندي احساس

المبدع الرويشان (خالد) يكتب تحت عنوان (الرجل .. الأغنية) في غلاف كتيب التكريم: وحده الجابري يعيد للمعني معناه. حياة مثل تنهيدة طويلة! كيف استطاع أن يحيلها إلى أغنية.. تلك مهمة الفنان في الحياة. كيف أنبتت هذه الشعاب وردة البهاء الندية المشرقة.. كيف قاومت الوردة غبار النسيان؟

هل تكفي دموع الفنان الشاعر كي تغسل آلام هذا العالم؟.. أيها الجابري:

ما أجملك وحيداً في مدارات أيامنا، ما أقلّ هذا العالم .. ما أكثرك!

عرفت أحمد الجابري بعينيه الواسعتين المملوءتين بالحزن، وصوته الخفيض بحباله المغنية، وذلك المجهود العظيم الذي يبذله لكي يشعرك بالمودة، عرفته في مدينة القاهرة بمصر عام 1964م، وكنت أعرفه قبل ذلك عن كثب: لاعب كرة قدم فنان في مستوى علي محسن المريسي في عدن، شاعراً موهوباً نقلته الأغاني إلى وجدانات الناس وصميم مشاعرهم. ومنذ النظرة الأولى وَشَم ذاكرتي بمحبته وتقديره .

سلام عليك يا أحمد الجابري، وهنيئاً للراهدة بك، فستؤرَّخ معك أكانت جرحاً أم كانت بلسماً، وعليها أن تختار، فأنت وديعة بين قلبين.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى