نظرة تشريعية: حول مكافحة جرائم الفساد

> علي هيثم الغريب:

>
علي هيثم الغريب
علي هيثم الغريب
لن نتعرض في هذا المقال الى شرح جرائم الفساد كل على حدة، ولكن سوف نتطرق الى كيفية وضع نصوص مكافحة جرائم الفساد من خلال النظرة التشريعية التي تخلق نوعاً من التنسيق الثانوي في معالجة ظاهرة الفساد من خلال العديد من الزوايا وادماجها ضمن العديد من القوانين السارية بدلاً من صياغة قانون لمكافحة جرائم الفساد. إذ ان معالجة ظاهرة الفساد لو اقتصرت على قانون واحد فإن المعالجة التشريعية للفساد سوف تكون قاصرة لا محالة. لذا على المشرع ان يعدل بعض نصوص قوانين العقوبات والاجراءات الجزائية وانشاء المحاكم المتخصصة ووضع بعض النصوص الجديدة في هذه القوانين المختلفة لكي يجمع بينها رباط واحد يتمثل في التصدي للفساد من كافة نواحيه وحتى هذه النصوص ستتميز في المحاكم بأنها نصوص مكافحة جرائم الفساد، وستظل نظرتنا حول نصوص جرائم الفساد تجد أساسها في المواد القانونية المشتركة التي تحتويها هذه القوانين.

ولعل أول ما يلفت النظر في الاحكام المشتركة التي تجمع نصوص جرائم الفساد هي تلك القواعد الموضوعية التي سيدخلها المشرع في هذا التعديل وهي المواد المضافة الى القانونين المذكورين أعلاه.. فأساس وحدة المواد المضافة هو وحدة المصلحة القانونية التي يحميها الدستور من خلال تجريم الافعال المخالفة لنصوصه. ومن اجل حماية المصلحة العامة التي يبتغيها المشرع فلابد ان يكون هناك تعدد في نصوص التجريم فهذا التعدد يتفق مع طبيعة الافعال الاجرامية في جرائم مكافحة الفساد، التي تقع بأفعال متنوعة ومختلفة تجمع في طياتها الاعتداء على المصالح والحقوق والاملاك العامة في سبيل تحقيق غاية شخصية يهدف لها الفاسدون من خلال الوظيفة العامة والمسئولية الملقاة على عاتق الموظفين والمسئولين. ومن هنا لابد ان تتعدد النصوص المضافة او المستبدلة في تلك القوانين المذكورة حتى يغلق المشرع اي ثغرة يمكن ان تكون خارج حمايته، ومنها تعطيل تنفيذ احكام القضاء (على سبيل المثال لا الحصر). وعلى المشرع أن يضع تعريفا عاما للفساد يحدد مفهوم المشرع تجاه هذه الظاهرة الاجرامية باعتبار الفساد هو تنفيذ جريمة تهدف الى الاستيلاء على الاموال والمصالح والاملاك العامة للدولة، والاخلال بالنظام الاداري والقانوني والقضائي وتعريض المجتمع وتنميته للخطر، ويقوم على استخدام الوظيفة العامة او الخاصة او تعطيل سير العمل في ادارة الدولة الذي يفضي الى التمويه عن الجريمة. ويمكن ان يكون الفساد مشروعا اجراميا واحدا يقوم به عدة افراد وبوسائل وافعال مختلفة الا انه يجمع بينها رباط واحد يتمثل في وحدة الغرض لديهم وهو نهب املاك الدولة او عرقلة الاستثمار او الاعتداء على حقوق الآخرين وذلك بعدم تنفيذ الاوامر والتوجيهات القانونية وكذلك احكام القضاء والمصلحة القانونية.

هذا وان كانت نصوص مكافحة جرائم الفساد لا تحمي حقوقاً خاصة بل تحمي الحقوق الاجتماعية ولكن في اطار هذه الحماية فإنه يتعين التفرقة بين الاعتداء على الحقوق الخاصة ذات الطابع الاجتماعي (الاستثمار مثلاً) التي تنال من حقوق اشخاص من الناس (وليس من المواطنين فقط) في اطار الصبغة الاجتماعية للمصلحة العامة وبين الاعتداء على الحقوق العامة التي تنال الاملاك العامة والتنمية والاستثمار وحتى استقرار المجتمع وأمنه. ومن خلال هذه التفرقة فإن الامر الذي لاشك فيه ان جرائم الفساد تتسع وتضيق باختلاف التحصيل ومداخيل الدولة ومنافذها وثروتها وباختلاف الهدف من الفساد وجرائمه، وذلك ان هناك مواقع وظيفية (دسمة) عندما يظهر الفساد فيها يتحول الى جريمة ضد الحقوق العامة ذات الطابع الوطني (خيانة الوطن)، باعتباره ينال بالاعتداء حقوقاً عامة عليا. وهذا يقتضي بطبيعة الحال ان تتضمن الجريمة العديد من الطرق الاجرامية بحيث يكون لكل فعل من هذه الافعال دوره في تحقيق الهدف النهائي من جرائم الفساد. اي انه (عملياً) يعين المسئول (شحص ثقة) في موقع (دسم) لاستكمال خطته الاجرامية بالاستيلاء على اموال واملاك الدولة، ويمكن ان يكون هذا الشخص في وظيفة صغيرة (لا ترى بالعين المجردة) ولكن يفهم الجميع ان هذا الشخص تابع لفلان. اي ان الموظف الصغير ممكن ان يقوم بأعمال فاسدة كبيرة ونقول انه امر طبيعي ويتفق مع حقائق جرائم الفساد لان الافعال التي يهدف اليها الفاسدون لها طرق كثيرة لا يكفي ان يقوم بها فرد واحد دون معاونة ومؤازرة الآخرين، ومن ثم فإن الاصل ان تقوم بـ( الفساد) مجموعة تنتظم فيما بينهما على الاستفادة من امكانيات واملاك الدولة وهذا يعني من الناحية القانونية انه لابد ان يكون تدخل الجاني في جرائم الفساد متمثلاً في اتجاه ارادته الى المساهمة فيما تهدف اليه هذه الجرائم، ومع علمه انه بفعله يساهم بدور -أيا كان حجمه- من اجل تحقيق ما يهدف اليه غيره من الجناة في تحقيق الغرض النهائي من جريمة الفساد التي قد تؤدي الى افقار البلد والاخلال بالنظام العام او تعريض سلامة المجتمع وأمنه للخطر بسبب توزيع الخيرات او التساهل مع المتنفذين في نهب الاملاك العامة او الخاصة المرتبطة بالصبغة الاجتماعية.

وقد يتبادر للذهن ان كل جرائم الفساد بدون استثناء لا تختلط من حيث باعثها ونية الجاني وتأثير الفعل على المجتمع بالجرائم السياسية ، الا انه سرعان ما يتبدد هذا الوهم، وذلك ان الجريمة السياسية هي وسيلة شاذة للنشاط السياسي، وهو نشاط لا يجرمه القانون في حد ذاته بفعل الديمقراطية في بلادنا التي تبيح تعدد الاحزاب والآراء والتجمعات السياسية وفق الدستور والسماح لها في التعبير عن رأيها في اطار القانون ولكن بما ان الجريمة السياسية هي جريمة اعتداء تمس الشخصية القانونية للدولة اي حقوق الدولة، إذاً فإن بعض جرائم الفساد -خاصة التي مورست في محافظات الجنوب بعد حرب 94م -هي جرائم يراد بها ان تبعث الخوف وتنشئ خطراً عاماً يهدد ابناء محافظات الجنوب بترك وظائفهم واملاكهم خاصة وان تلك الجرائم (قتل بعض المواطنين وهروب الجناة ونهب الاراضي واملاك دولة الجنوب السابقة) تعتمد على اساليب فاسدة مئة بالمئة ويتناسب ضررها مع الغرض المستهدف منها. ونؤكد ان جرائم الفساد لا تعد من بين الجرائم السياسية المتعارف عليها دولياً في اوقات السلم، ولكن لان بعض جرائم ما بعد الحرب لم يعاقب عليها ولم يقدم الى القضاء مرتكبو جرائم النهب والسلب والاستيلاء على بعض مباني واملاك دولة الجنوب السابقة.. وفي هذه الحالة بالذات (نهب اراضي واملاك ابناء محافظات الجنوب) يتسع المدلول في مفهوم جرائم الفساد فيشمل كل ما من شأنه تعريض سيادة دولة الوحدة الوليدة للخطر، كما يشمل كل مايتعلق بمباشرة السلطات العامة لوظائفها سواء أكانت سلطة تشريعية او سلطة تنفيذية او سلطة قضائية والمساس بأعمال مؤسسات الدولة المختلفة في محافظات الجنوب، وما تستخدمه من وسائل في سبيل مباشرة وظائفها.

أما تعريض سلامة المجتمع اليمني وأمنه لعدم الاستقرار فيشمل كل ما من شأنه المساس بحقوق الموظفين وتوقيفهم بدلاً من السماح لهم بممارسة حقوقهم الدستورية. ولما كان الفساد يقوم اساساً على نهب المباني والاملاك العامة والخاصة والاستيلاء عليها بواسطة المتنفذين وإضعاف الادارة وتحييد القضاء لارتكاب مساوئ الفساد الذي يفقد الناس بسببه الشعور بالامان والسلام الاجتماعي فكان من الطبيعي ان تكون الوسيلة لارتكاب مثل هذه الجرائم (جرائم الفساد) تقوم على استخدام القوة او التهديد كما يحصل اليوم في محافظات الجنوب، والذي تحاول بعض السلطات المحلية ان تواجهه وتحد منه. وعندما نقول استخدام القوة من قبل المتنفذين الفاسدين فهذا ينصرف قانوناً الى الاكراه المادي الواقع على المواطنين وذلك بارتكاب المتنفذ الفاسد جرائم الاعتداء على الملاك ، أي الاعتداء على مجموع الحقوق المتصلة بالنفس (الحياة وسلامة المواطن والشرف والاعتبار). وهذا يؤدي الى احساس المواطنين بعدم توفر الامن في حياتهم اليومية وتوقع حدوث الشر في أي وقت من الاوقات دون احتساب اذا حاولوا التمسك بأملاكهم وحقوقهم الاخرى.. وعندما تطرقنا في بداية مقالنا القانوني هذا وحتى لا تقتصر مسألة معالجة جرائم الفساد على قانون واحد، فهذا لان جرائم الفساد تعامل بذات المعاملة التي تعامل بها الجرائم العادية التي يعاقب عليها قانون العقوبات والاجراءات الجزائية. والنشاط الاجرامي في جرائم الفساد هو نشاط محدود، يساهم فيه المتنفذ مساهمة اصلية والآخرين من الجناة تابعون وعلى حسب الادوار والاحوال. لكن وفيما يخص مشروع قانون مكافحة الفساد الذي اقرته الحكومة وأحالته الى مجلس النواب فإنه لا يجرم جرائم الفساد وانما تتشكل هيئة مستقلة لمكافحته، ترفع تقارير شأنها شأن الهيئات واللجان الاخرى المنتشرة في الجمهورية.. ومن هنا فإنه لا توجد مصلحة يحميها المشرع من خلال (هيئة) او قانون مكافحة الفساد، مع ان المصلحة التي يحميها المشرع من خلال جرائم مكافحة الفساد هي مصلحة عامة بحتة وهذه المصلحة العامة يكفي للنيل منها بواسطة نشاط اجرامي محصور في مكان بعينه ويمكن ان يكون عشوائياً او من خلال نشاط منظم يهدف الى تحقيق مكاسب خاصة وشخصية تعرض سلامة اموال واملاك الدولة للخطر. وتوضيحاً لهذا القول فإذا عرقل اي متنفذ او موظف مصالح افراد او عطل قرارات واحكام القضاء لمصلحته الذاتية فهذه جريمة واعتداء وتدخل ضمن جرائم مكافحة الفساد تتطلب تحقيقاً ابتدائياً ومحاكمة جنائية، وليس رفع تقرير من قبل هيئة مكافحة الفساد. والاهم من هذا ان جرائم الفساد لا يمكن ان يقوم بها مواطن عادي، بل شخص محدد مرتبط بوظيفة محددة ويريد وقوع هذه الافعال ويريد النتيجة التي تحقق مصلحته الذاتية والتي سوف تترتب على افعاله هو.

وهنا جرائم كثيرة ارتبطت بالفساد وهي جرائم الاعتداء على المواطنين والاموال والتزوير ونهب الاراضي وهي جرائم ارتكبت نتيجة الفساد وتنفيذاً لغرض الفساد. وبدلاً من التنسيق الذي جاء به مشروع قانون مكافحة الفساد الذي رفعته الحكومة الى مجلس النواب في نوفمبر 2005م بين الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة وبين اجهزة السلطة القضائية لماذا لا تنشأ محكمة تختص بجرائم مكافحة الفساد تنشأ بدائرة محكمة استئناف صنعاء وعدن -في دائرة او أكثر- كما تختص ايضاً بالفصل فيما يقع من هذه الجرائم من المتنفذين، خاصة وان هناك محاكم أنشئت تختص بجرائم الاختطاف والاموال العامة وغيرها. وبموجب هذا (الإنشاء) خرج المشرع عن قواعد الاختصاص المنصوص عليها في الفصل الثاني من الدستور والمادة (234 -1) من قانون الاجراءات الجزائية.أي ان المشرع خرج -لاسباب قد تكون وجيهة- على قاعدتين من قواعد الاختصاص المحلي (المادة 231، 232 م.ج)، وقاعدة الاختصاص الشخصي (م. 234-1). ونعتقد ان توحيد المحكمة التي تتولى النظر في بعض الجرائم كان رد فعل طبيعي لنظرة المشرع الى هذه الجرائم. وجرائم الفساد قد ينتظمها مشروع واحد بغض النظر عن المكان الذي وقعت فيه الا انها تعرض اقتصاد البلد وتنميته للخطر، وهي مصلحة قانونية عامة. فإذا كان المشرع ضحى بقواعد الاختصاص المحلي بشأن جرائم الاختطاف والتقطع وغيرها، وركز محاكمة جرائمها في دوائر متخصصة فنعتقد ان جرائمالفساد لا تقل خطورة عن تلك الجرائم.. ومن ناحية اخرى فإن توحيد المحكمة المختصة بنظر قضايا الفساد هو تأكيد على أهمية وجدية الحكومة في مكافحة الفساد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى