هل تجوز الصلاة بدون ميكرفون

> فريد صحبي:

>
فريد صحبي
فريد صحبي
هناك نكتة كاريكاتيرية طالعتها في إحدى الصحف المصرية يظهر فيها شخص يحمل ميكرفوناً ضخماً، كذلك الذي نشاهده معلقاً على مآذن المساجد، وآخر واقفاً إلى جواره يسأله:

- إية ده إللي إنته شايله على كتفك؟

- أصلى مسافر على أوروبا، وده لزوم الصلاة هناك!

هذه النكتة تسخر من الذين يتصورون أن استخدام مكبرات الصوت في المساجد ضرورة كضرورة سجادة الصلاة للمصلين.. أو هي ربما كالوضوء تبطل الصلاة بدونه.. هل رأيتم مسجداً بلا ميكرفون.. آسف.. بلا أربعة ميكرفونات؟!

سألت يوماً شيخاً وقوراً، ذا لحية كثة وقميص ناصع البياض.. هل من الدين استخدام صوت ميكرفونات المسجد بهذا الارتفاع الصارخ الذي يتجاوز حد الإسماع إلى حد الإقلاق.. فأجابني بكل هدوء بأن الأذان في أساسه وأصوله هو أن يعتلي المؤذن جدار المسجد ويؤذن بصوته الطبيعي لا غير!

ثم سألت آخر إماماً لمسجد طاعناً في السن عالماً حقيقياً ذا ثقافة واسعة.. سألته السؤال نفسه.. أجابني الرجل إجابة مختصرة وحاسمة بأنه إذا تأذى طفل نائم أو مريض من صوت ميكرفون المسجد فإن صلاتي وصلاة من يصلون معي باطلة!!

في البداية كان الغرض من استخدام الميكرفون في المساجد هو لرفع الأذان فقط..عفواً.. سأقطع حديثي لأني تذكرت للتو قصة طريفة تحكي أن إمام مسجد في إحدى قرى صعيد مصر لم تكن بعد قد عرفت بدعة ميكرفونات المساجد.. عرضوا على ذلك الإمام الـ(المايك) وهو القطعة التي تستقبل الصوت.. وقالوا له:

- يا شيخنا.. من هنا ورايح تؤذن بهذا الميكرفون.

أمسك الشيخ بالمايك والتفت إلى من حوله موبخاً :

- إيه ده.. عاوزيني أأذن في حتة الحديدة ديه؟!

ثم ألقى الشيخ بالمايك على الأرض بشدة وهو يصيح ويتوعد بأنه لن يؤذن إلا بصوته الطبيعي بتاع ربنا!

ويستكمل راوي هذه القصة وقد عاش وقائعها.. بأنه بعد ذلك قام بزيارة قسيس الكنيسة في نفس القرية حيث قال ذلك القسيس بأنه يستيقظ عادة عند الفجر ليستمع فقط إلى ذلك الشيخ وهو يؤذن للصلاة بصوته الجميل الذي ينساب في رقة كنسيم الفجر العليل!

والآن نعود إلى الحديث الذي قطعناه والذي قلنا فيه إن الغرض في البداية من استخدام الميكرفون في المساجد كان لرفع الأذان.. وللاستخدام داخل المسجد فقط إذا دعت الضرورة.. لكن يبدو أن الجماعة استهواهم الميكرفون.. فتساءلوا فيما بينهم لماذا لا نعلن به أيضاً إقامة الصلاة خارج المسجد وأيضاً تأديتها كاملة بركعاتها وسجودها وقراءاتها كاملة خارج المسجد.. وكان لهم ما شاؤوا.. الغريب أن أحداً لم يجرؤ على الاعتراض.. هنا لم يجد أهل الجامع غضاضة في التمادي حتى النهاية فاستخدموا الميكرفون في دروس الوعظ والإرشاد التي تلقى يومياً إلى خارج المسجد.. ليس هذا فحسب بل أيضاً الموالد والأناشيد وكذلك الاحتفال بكل مناسبة شاردة وواردة طارئة ومستجدة.. كل ذلك جعلوه عبر الميكرفونات.. بأعلى الأصوات التي تقض مضاجع الأموات في قبورهم.. فما بال الأحياء الآمنين في بيوتهم!!

يقولون لنا ويحكم.. هذا كلام الله.. نقول لهم حاشا لكلام الله أن يكون صراخاً وصخباً وضجيجاً وعويلا.. ألا بذكر الله تطمئن القلوب ولكنكم يا هؤلاء تجعلون قلوبنا تفزع وتمرض.. أخرسوا ميكرفوناتكم المتوحشة.. إن الله جميل يحب الصوت الجميل.. والقول اللين.. يقول الله في محكم آياته {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} (الأعراف: 204).. الإنصات يا سادة لا يكون إلا للصوت الخفيض الرقيق.. أما الصوت المزمجر فلا ينفع معه الإنصات بل الفرار!

في دولة الكويت ممنوع منذ أمد بعيد استخدام الميكرفون عند أذان الفجر.. ليس لأنه عدوان على راحة الناس كما قالوا بل لأنه أيضاً وفي المحل الأول عدوان على قدسية لحظات الفجر ذاتها.. وقضاء على روحها الترتيلية التعبدية.. فمن ذلك الذي يكره سماع أذان الفجر وترتيله بالصوت الإنساني الصافي الطبيعي؟!

يقول د. علي جمعة مفتي الديار المصرية: أخاف أن نصل إلى ثقافة الضجيج، ثم إلى عقلية الضجيج ثم إلى نفسية الضجيج، وهو أمر لا يقره الشرع ولا العرف ولا المنطق السليم، ولقد نبهنا الله سبحانه وتعالى على ألا نتخذ الضجيج منهجاً لا في ثقافتنا ولا في عقليتنا، ولا في حياتنا ولا في سلوكنا أو عبادتنا، بل من أجل أن نفكر التفكير المستقيم علينا بالهدوء داخل أنفسنا وخارجها، حتى نتذوق مزيداً مما خلقه الله من الجمال، قال الله تعالى {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} (الأنفال: 35) والمكاء الصفير، والقصد المنهي عنه هذا الضجيج. لأنه لا يليق بحال العبادة كما أنه لا يليق بحال الإنسان. وقال الله {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه لعلكم تغلبون} (فصلت: 26) أي عليكم بالضجيج في مواجهة الإيمان. وقال {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} (التوبة: 6) والسمع لا يأتي إلا بالهدوء.

إنه لمن المؤسف حقاً وبعد أن اطلعنا على حديث فضيلة الدكتور على جمعة مفتي الديار المصرية أن نقول إننا فعلاً قد وصلنا إلى ثقافة وعقلية ونفسية الضجيج.. أصحاب السيارات يطلقون أبواب سياراتهم بلا ضابط.. سائقون الحافلات لا يكفيهم ضجيج الزحام فيزيدون عليه ضجيج وصخب شرائط مسجلاتهم الخاصة فرضاً وقسراً على الركاب.. يزيد الأمر سوءاً عندنا في الأفراح حين تتحرك مواكب السيارات وهي تشعل الشوارع بالصخب والضجيج.. ومعها تحيات بزخات من رصاص ومفرقعات تستمر وتتواصل إلى ما بعد منتصف الليل مسببة الفزع والهلع والعذاب للناس.. ومكبرات صوت توضع في الشرفات وعلى قارعة الطريق حيث يعطل المرور وتقام الحواجز.. والغريب في الأمر أن صاحب الحفل يحصل على إذن من السلطات!!

الأمر هنا يا سادة يتعلق بصحة الإنسان الجسدية والذهنية والنفسية التي يجب حمايتها من عبث العابثين.. من أعطى لهؤلاء الحق في الاستخدام الهمجي للميكرفونات ليل نهار داخل الأحياء السكنية دونما اعتبار لظروف وحالة من يحيطون بهم من الجيران والسكان.. لماذا يعتبرون أفراحهم أفراحاً لكل الناس.. من أعطى الحق لهؤلاء للتصرف بالفضاء الصوتي كأنه ملكية خاصة بهم.. الفضاء من حولنا يا سادة ملكية عامة.. انتهاك الفضاء من حولنا بأي صورة كانت يعتبر جريمة كجريمة انتهاك أي ملكية عامة أخرى!! أين القوانين المنظمة لحقوق الإنسان وحقوق السكان.. أين حماية البيئة من التلوث السمعي.. وما ينجم عنه من أمراض خطيرة تصيب المجتمع التي قد تصل إلى حد الجنون أو الموت!!

ومن أين لنا أن نبدأ إن لم نبدأ من بيوت الله.. من مساجدنا أرواحنا مركز إشعاع فكرنا وثقافتنا ومكارم أخلاقنا.. إن لم نفعل فتعالوا إذن نتساءل.. هل تجوز الصلاة بدون ميكرفون؟!!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى