ممنوع اللمس لمائة وخمسين مليون هندي

> فاروق لقمان:

>
فاروق لقمان
فاروق لقمان
خلال شهر أكتوبر من العام الجاري وحده اعتنق مليونا هندوكي ديانة البوذية في منطقة محددة هروبا من واحتجاجا على ديانتهم الأصلية، وإذا أضفنا الأرقام السابقة سيتجاوز العدد اثني عشر مليوناً في الأعوام القليلة الماضية. من هم هؤلاء اللاجئون إلى البوذية من الهندوكية وبهذه الأعداد الهائلة؟

سماهم البريطانيون «المنبوذون» أو حرفياً الذين لا يلمسون لأنهم حسب المعتقدات الهندوكية يحتلون أدنى درجات السلم المهني بعد البراهمين الذين ينتمون إلى الطبقة العليا ومنهم رجال الدين الذين كان من واجبهم محاربة الظلم والتفرقة والاستعباد. ثم المحاربين المدافعين عن الأرض وحماة الحمى، وثالثا التجار والملاك والمزارعون وذوو الحرف. لكن الكارثة الكبرى هي اعتبار المنبوذين منذ أربعة إلى خمسة آلاف سنة مجرد خدم وعمال نظافة وسخرة لا يسمح لهم حتى بالشرب من مياه الآبار التي تباح للطبقات الأخرى.

ولما كنت في زيارة لإحدى المناطق الزراعية في ولاية ججرات أيام الدارسة فوجئت بمناظر وحالات من أبشع ما في الوجود فقط لأن الأطفال والنساء والرجال المنتمين للطبقة المسماة سودرا يصنفون في أسفل الدرك دون مبرر. وهكذا ظل حالهم حتى استقلت الهند عام 1947م عندما ألغى الدستور نظام الطبقية وعول على تصحيح أوضاع الطبقات الدنيا ومنحهم معاملة خاصة في التعليم والتوظيف حتى بدأت أحوالهم في المدن تتحسن تدريجيا بعد أن بلغ عددهم أكثر من مائة وخمسين مليونا بين ألف ومائة مليون مواطن هندي.

لكن المشكلة ظلت قائمة كما كانت منذ وصول الغزاة الآريون من جنوب أوروبا وشمال وسط آسيا قبل ظهور الديانات الأخرى أو استيطانها الهند.. وهناك حاليا تدور رحى شبه حرب أهلية في ولاية بيهار شمال شبه القارة بين المنبوذين والملاك المتزمتين الذين لا يودون الاعتراف بحقوقهم بالاستمرار في احتقارهم ونبذهم عن المجتمع.

اضطر المنبوذون إلى حمل السلاح للدفاع عن حقوقهم وشرفهم لأن الطبقات العليا تغتصب النساء ثم تلقي بهن في الشوارع أو بجثثهن في الآبار الملوثة أصلا، وشكل الملاك عصابات مسلحة لمقاومة الصحوة واستعرت الحرب حتى اليوم.

وإنصافا للدولة فإن الدستور الذي ألفه الدكتور أمبدكار وهو في الأصل أحد المنبوذين خلال حياة الزعيم غاندي وتلميذه نهرو، حرم المنبوذية بالمطلق لكن القانون شيء وإلغاء الممارسات شيء آخر تماما وإن كان هناك اليوم تغيير ملموس في حياة نسبة عالية من ضحايا الطبقية.

ولعل أهم رمز للتقدم في مضمار محاربة الظلم الطبقي كان اختيار البرلمان للأستاذ الدبلوماسي السابق ناريان من ولاية كيرالا الجنوبية رئيسا للهند، وهو في الواقع ينتمي إلى المنبوذين، وكان كما يقول في أحاديثه يدرس بالاستماع خارج الفصل المدرسي لأن أحداً من الأساتذة والتلامذة لم يكن يقبل استقباله والسبب أن مجرد الاحتكاك به كان في نظرهم القصير ومعتقداتهم الجائرة تدنيساً لهم من الواجب بعده الاغتسال عدة مرات، وبعد الاستقلال ونجاحه بالماجستير عينه حزب المؤتمر الشعبي - الكونجرس- برئاسة جواهر لال نهرو دبلوماسيا ثم سفيرا في عدة عواصم فأبدع وبز أقرانه حتى قال عنه نهرو إنه أفضل منسوبي الخارجية الهندية. وكان حزب المؤتمر الشعبي بقيادة السيدة سونيا الإيطالية الأصل زوجة راجيف حفيد نهرو ابن أنديرا هو الذي رشحه وأيده بكل قواه ليكون رئيسا للهند قاطبة، وكأن المؤتمر ووراءه الشعب المستنير أرادوا أن يثبتوا أن عصر الحرية الجديد لا يؤمن ولا يطبق الاستعباد وباتوا يرفعون أكفهم احتراما لرجل كان يوما ما من المحكوم عليهم بـالإقصـاء التـام عن مجتمـع الطبقـات العليا.

وقبل ذلك تحدى غاندي الطبقية بتسميته المنبوذين (أحباب الآلهة) - هاريجان- وظل يضمهم إلى صدره أمام الملأ تحدياً لعسف وعنجهية الآخرين، بل إنه حرر وأصدر جريدة اسمها «هاريجان» إمعاناً في تنوير الجميع وإنصافاً للمنبوذين.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى