> فضل النقيب:

فضل النقيب
فضل النقيب
لعلها من المرات النادرة التي تخرج فيها عصفورة الشام الذهبية غادة السمان عن مسارها الغربي لتتجه إلى عدن شرقا، وكان ذلك في مطلع سبعينيات القرن الماضي قادمة من بيروت التي كان يأتيها رزقها رغداً من كل فج عميق، قبل الانفجار الكبير في منتصف السبعينيات الذي أدخلها في نفق مظلم لم تخرج منه حتى الآن، وكانت عدن آنذاك قد دخلت في النفق وأوغلت قليلاً، ومن كُتبت عليه خطى مشاها.

ذهبت إلى غادة في فندق الهلال «كريسنت هوتيل» بالتواهي وكانت المسحة الملكية لا تزال تطبع الفندق بجلالها، فوجدتها جالسة في بهو الفندق وحيدة إلا من كأس لا تدري أيهما كان أكثر بريقاً من الآخر الكريستال البوهيمي الغني بالضوء، أم هذه القادمة الفاتنة من مدينة تسبح في الأضواء، تشع كأنها فص ألماس على كرسيها الوثير، فلم تكن قد خرجت بعد إلى الأجواء المغبرة طبيعياً إضافة إلى تغبير الناس، فقد كان ملعب التواهي الترابي لكرة القدم موقعاً مفضلا للتدريب العسكري لكوادر الدولة رجالاً ونساء زرافات ووحدانا بالملابس الخاكي والوجوه المزمومة، وغالباً ما كان يمر الرئيس سالمين فيحيي من بعيد أو يترجل للتفتيش فتلتحم الصفوف بين رفع وخفض: يسار دور، يمين دور، محلك سر، وضع استعداد، انبطاح.. لمّا الواحد «يشوف أمّه عروسه» وقد لكزني ذات صباح المرافق العسكري أحمد صالح حاجب وهمس في أذني «تصدّق عارهم» هذه مسرحية من لا يعرف الحروب، خفت على نفسي أكثر مما خفت على حاجب، ففي مقابلي تماماً جدار أمن الدولة وللجدران آذان.

ما علينا، قلت لغادة التي كانت في شهر العسل أو على ضفافه، والتي قدمت برفقة زوجها الناشر المرموق بشير الداعوق، المشغول بترتيبات سياسية وطباعية ورفاقية، فهو من أعيان اليسار، يسار بيروت وليس يسارنا. قلت لها إنني مُرسل من قبل وكيل وزارة الإعلام عبدالرحمن عبدالله إبراهيم لوضع برنامج ومرافقتها إن رغبت، وقد أسعدتني بقبولها، ولكنها رفضت أن نذهب إلى مكتب الوكيل لشرب فنجان من القهوة قائلة إنها لا تطيق لقاء الرسميين، فتلفنت للدكتور المعروف بتواضعه ونفوره هو الآخر من المسؤولين فقال لي عبارة عمر الجاوي الأثيرة:«إذا لم يأت هذا الجبل إليّ فلأذهب أنا إليه» وفعلا جاء إلى حضرة البريق، وقد أخذتها لجولة في عدن عند المغيب حيث تلبس المدينة غلالة السحر ويتحول البحر إلى عاشق مليء بالشجن. وقد صعدنا إلى (معاشق) وارتقينا درج (الفنار) على شفق المغيب فشاهدنا البواخر الماخرة على خط الانكسار في خليج عدن حيث تبدو كأنها على حافة هاوية، وقد سُحرت غادة وهي تستمع إلى تكسر الأمواج عند أقدام الجبل المهيب وصولاً إلى خاصرته وهبوب النسيم الذي طيّر شعرها كل مطار. إن من يرى عدن من (معاشق) وإطلالاته المتعددة لن يسيغها بعد ذلك من موقع آخر.

في صباح اليوم الثاني كنت قد نشرت مقالاً مضمخاً بالحنين في وصف غادة التي كانت شهرتها تفوح فوح الياسمين في وادي تبن، وذلك في جريدة «14 أكتوبر» وسلمتها الجريدة ونحن نستعد للذهاب إلى لحج دون تخطيط لرؤية المحافظ العم عوض الحامد، استئناساً بالدرس الذي تعلمته من زيارة محمود درويش، حين أوشك أن يُغمى عليه مما أرهقه به من فائض الأحمال، وما إن خرجنا من باب (الكريسنت) حتى وجدت ثريا منقوش في وجهي: يا خفي الألطاف نجّنا مما نخاف، من هذي يا ابن النقيب، أنا عيني مليانة منها. قلت باقتضاب يكاد يكون جفاء: غادة السمان. وفين رايحين. قلت: لحج. «خلاص أنا باجي معكم». وصعدت إلى السيارة لتقود الركب، فرانت غمامة من الكآبة على وجه الضيفة التي انتقمت منها أشد الانتقام في القصة التي كتبتها من وحي عدن «الساعتان والغراب» في مجموعتها «رحيل المرافئ القديمة»، وكان اسم بطل القصة (فضل النديم) وقد تعلمت من أسرار الكتابة الروائية في تلك القصة أكثر مما تعلمت من الكتب الأكاديمية. كان الغراب نذيراً والنافذة كوّة في سجن، أما الأحلام الوردية فكانت خيالاً في خيال مما يبرع في نسجه المبدعون.