حكاية مكان .. حي الحارة بالمكلا .. تجمعهم روابط القربى والألفة والنزاعات أحيانا

> «الأيام» سند بايعشوت - تصوير/ رشيد بن شبراق:

>
بيت حضرمي بتفاصيله وزخارفه بجانب مسجد حليوة
بيت حضرمي بتفاصيله وزخارفه بجانب مسجد حليوة
المألوف والمرغوب .. تتشابه الأحياء الشعبية في جميع البلدان العربية مع بعضها، لأن عمق التاريخ والجغرافيا قد وحّد الناس في هذه الأمصار.. إذن فالزائر لأي حي شعبي في أي بلد عربي يجده لا يختلف عن نظيره كثيراً.

المكلا إحدى المدن العربية المطلة على شط بحر العرب، قيل عنها إنها فينيسيا العرب، ولسنا بصدد إبراز تاريخ هذه المدينة لكن استنطاق الذاكرة الجمعية لحكاية مكان.

والأمكنة - جمع مكان - هي تاريخ وفرادة.. فالساكنون في أي تجمع بشري تجمعهم روابط القربى والألفة بل والنزاعات أحياناً لكن حتى هذه الخلافات الناشئة بين جار وجاره سرعان ما تتلاشى إذا كانت بساطة تلك الحياة تجعل قلوب الناس راغبة في المألوف والمرغوب!.

فسيفساء مكان
يظل حي الحارة بمدينة المكلا معلماً بارزاً من تاريخ هذه المدينة، إذ تجتمع فيه جميع المتناقضات، ليس المتناقضات الصارخة أو الفاضحة ولكن تلك المتناقضات في أن يتحدث رجلان في مقهى عن السياسة وبجانبهما يتحدث آخران عن واجب اجتماعي.. حدث هذا ويحدث الآن في مقاهي المكلا ذات العراقة والتاريخ التليد.

إذ تجمع هذه المقاهي عدة وجوه من الحي ذات سحنات هندية وعربية وجاوية وأفريقية، ذلك لأن المكلا ساحلية ومقاهيها تحتمل بالطبع وجود مثل هذه الوجوه اللا متجانسة لكنها متآلفة فيما بينها بالفطرة في هذا الحي.

مدخل إلى الحارة
الحارة هو أحد الأحياء القديمة لمدينة المكلا وفيه يمتد الزمان إلى الآن، لأن الحاضر غرس الماضي، والمستقبل جني الحاضر والتاريخ سجل الزمن لحياة الشعوب والأشخاص والأمم.. وحي الحارة امتداد لأصالة إنسان مكلاوي (متعصّر بالكارة)، وهي لباس أبيض كان سائداً قبل نصف قرن تقريباً.. وفي هذا الحي انطلق عبق التاريخ مضمخاً بعبق الدخون والبخور، عبر أحيائه وأزقته.. وأروع ما يكون هذا الحي جمالاً ونضارة في رمضان وأيام الأعياد حيث تزدهر الأنشطة التجارية المنتشرة في الشارع الطويل (الشارع الرئيسي) بالمكلا، الذي ينتهي عند مسجد عمر والذي تأسس في عام 1925م. وفي هذا الشارع تنطلق عربات الحمير تنقل حاجيات التجار والناس إلى أماكنهم.. فيما تجد امرأة ما تحلب عنزة واثنتين تتحادثان من شرفتين متجاورتين، وإذا مدت إحداهما يدها للاخرى كادتا أن تتصافحا لضيق الشوارع.

ما الحارة إلا مصر
وصف الشاعر الشعبي الكبير الراحل سعيد فرج باحريز، حارته بأنها تشبه مصر المدرسة الأهلية لآل شيخان إضافة إلى الدور الريادي في نشر العلم للشيخ عوض سالم بلقدي في (رباط النور)، وانطلاقة تعليم الفتاة في حضرموت الذي وضع لبناته الشيخ المعمر عبدالله أحمد محسن الناخبي، أطال الله في عمره ومن بعده جاءت بنته الشهيرة بـ(الست عبودة).

وكان للصحافة صدى في هذا الحي إذ انطلقت صحيفتا «الأمل» و«المنير» للشيخ يسلم بن عبده. أما النادي الثقافي الوطني فقد كان في أوج ازدهاره في فترة الخمسينات إضافة إلى الأندية الرياضية التي كان أحد مؤسسيها صالح محمد الناخبي، ولا تنسى هنا بصمات المبدع سعيد محمد دحي في الإبداع الأدبي.. لكن يظل هذا الحي أيضاً رمزاً من رموز الإفتاء إذ يضم منزل الشيخ الراحل عبدالله بن محفوظ الحداد، مفتي الديار الحضرمية.

يا أهل ذا الساكن
لقد خلف حي الحارة بمدينة المكلا حالة من التجانس بين الحاكم والمحكوم والغني والفقير، لكن مع اتساع المدينة العمراني تناثر سكان هذا الحي في الضواحي القريبة للمدينة.. لكن بقيت البيوت القديمة وسكانها بالحارة شاهدة على الأصالة.. ولعل أبرز معالم هذا الحي سوق النساء الذي كاد الآن أن يتلاشى وسط زحمة (البساط)، لكنه ظل محتفظاً بطراوته إلى الآن، وبجانب هذا السوق تنتشر العديد من محلات بيع الحلوى والحلي والفضة والمكسّرات وقد شهد هذا الحي ازدهاراً في عهد إمارة الكساديين من خلال الفسيفساء المنقوشة على الأبواب والنقوش الأثرية المنحوتة على الأخشاب، وقد سجل عدد من الرحالة انطباعاتهم حين مروا من هذا المكان.. ولعل بيوت النخبة من آل بارحيم وآل باسويد وآل باحكيم، كانت شاهدة على تلك الفترة إذ كانت بمثابة صالونات أدبية تلتقي فيها كافة النخب من كل الأطياف.

صوت العرب.. من صوت الحارة
من هذا الحي - حي الحارة - انطلق صوت مذيع (صوت العرب) من القاهرة حمزة حي السقاف، والآن يعمل الرجل في إذاعة المملكة العربية السعودية البرنامج الثاني (من جدّة)، وقد عمل حمزة مع (بابا شارلو) محمود شعبان أشهر مقدم برامج أطفال في صوت العرب، إضافة إلى المذيع الشهير أحمد سعيد.

هذه هي فنتازيا الحارة التي ضمت بين أحشائها المؤرخ الراحل د. محمد عبدالقادر بافقيه، الذي كان يكتب لصحيفة «الأيام» (شيء من تلك الأيام) والذي يكتب هذا العمود من وحي الاعتمالات السياسية التي شهدتها الساحة العربية بما فيها مأساة تقسيم فلسطين في العام 1948م إضافة إلى بروز عدد من الشعراء الأماجد منهم الشاعر الكبير يسلم باحكيم الذي غنى له الفنان الراحل محمد جمعة خان، إضافة إلى الفنان يسلم عبدالله دحي.

وكانت الحارة تسمع إذاعات الشرق الأدنى وباريس والهند العربية ولندن ومصر المسائية ومحطة إذاعة صنعاء وصوت برلين، وكانت أبرز الاخبار مصرع النقراشي باشا في 28/12/48م رئيس وزراء مصر في تلك الفترة .. وإذن فإن العالم كان بين يدي الحارة قبل ظهور (الصحن الفضائي) حيث سجل التاريخ ظهور الراديو وتجمع الناس حوله في المقاهي والأفراح والمنازل من أبرز شخصيات هذا الحي من الناحية الثقافية والاجتماعية والسياسية.

شخصية من هذا الحي العريق
الشيخ الراحل أحمد عوض باعوم، هو احد الشخصيات التجارية في المكلا، وانطلق عطاؤه من هذا الحي وكان يرحمه الله جواداً سخياً فاتحاً بيته للسائل والمحروم والغني والفقير، ويقع بيتاه بجانب مسجد باحلبوه وتفصل بينهما مشاية (جسر علوي) تصل بين البيتين من أعلى وهي بمثابة ممر.. وله علاقات اجتماعية واسعة كما رأس نادي المكلا إبان فترة ازدهاره وفي مقدمة لاعبيه في تلك الفترة الكابتن الراحل طاهر باسعد وحارس المرمى الشهير حاج بامقنع وعدد آخر من مشاهير النادي. ويمتاز الراحل باعوم بأناقة ملبسه وقبعته الزنجبارية وحديثه إذ كان طينة معجونة من وفاء أهل الحارة.

آخر زقاق.. صلِّ على النبي
ولنا في آخر الأمر أن نتساءل وقد وصلنا الى آخر زقاق من حي الحارة مطراق (صلِّ على النبي).

أيكون سحر هذا الحي نابعا من الزمان والمكان؟ ربما .. ونتساءل أيضاً لو تغيرت معالم هذا الحي بعد عشرات من السنين هل سيحتفظ بذكرياته؟

لكن في النهاية يظل للزهرة عبير وللوردة شذى.

وتبقى الأشجار السامقة الشامخة في هذا الحي المتمثلة في أولئك الرجال الذين كانوا أزهى مراحل عصرهم وضمخوه بعطر المحبة والوداد.

وحي الحارة هو حي الفقراء وحي الأغنياء، مزيج من البشر تتداخل كل يوم في كل زقاق من أزقة حي الحارة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى