عدن: الفردوس الأرضي القادم

> فاروق لقمان:

>
فاروق لقمان
فاروق لقمان
مشواري اليومي خلال زيارتي القصيرة لعدن كان يمتد بين جامعة عدن العتيدة برجالاتها وطلابها، الفقيرة بمبانيها ومعداتها، وفندق مركيور في الطريق إلى كريتر، إلا أن الفرصة سنحت لي للقيام بجولة في ضواحي المدينة التي كانت مسقط رأسي ومركز الإشعاع الثقافي والتنويري لكل اليمن.

ولما كنت قد تغيبت قسراً عن المدينة الرائعة لعدة سنوات، خشيت أن أراها كما كانت بعد الأشهر الأولى للحرب الانفصالية المشؤومة عام 1994م عندما كان مطار عدن مهدماً بفعل الحرب وقبل ذلك بسبب الإهمال والبؤس الذي شمل كل مرافق الجنوب خلال الفترة التي سبقت سقوط الشمولية.

عام 1995 في الطريق من المطار إلى فندق عدن الوحيد من نوعه في البلاد، رأيت لقطات من المأساة التي أصابت البلاد. وكلما توغلت في المدينة كريتر والتواهي والمعلا والشيخ عثمان وما كانت خورمكسر أصبت بالمزيد من القهر والإحباط. ولست هنا بصدد سرد حكاية المآسي مثل تلك التي كنا نقرؤها أيام كلية عدن وقبلها المدرسة الثانوية المواجهة للبحر في عدن التي تحمل اسم أحد أعلام التربية والشعر الكبار أستاذنا الفذ لطفي جعفر أمان، رحمه الله.

لكن الزيارة الأخيرة التي قمت بها لحضور ندوة رائعة نظمتها جامعة عدن تكريماً لوالدي الراحل محمد علي لقمان كرائد لحركة وعصر التنوير في المنطقة، غيرت الانطباع السابق عن العاصمة الاقتصادية المزمع تحويلها إلى ميناء حر على أحدث نمط كما كانت منذ عام 1850 حتى عام 1967، فترة الاستعمار الغاشم كما كنا نصفه حتى رأينا وعاصرنا ما هو أغشم منه خلال الحقبة البائسة التي لا تزال تنتظر من يكتب عنها كجزء من تاريخ اليمن، الحالك منه.

ولا أقولها مجاملة لأحد لأنني لا أعرف إلا العدد القليل من الأساتذة الكبار الذين التقيتهم في الجامعة التي يقودها بجدارة واقتدار الدكتور عبدالوهاب رواح ونائبه لشؤون البحث العلمي والدراسات العليا الدكتور أحمد علي الهمداني الذي ألف حتى الآن ثمانية وعشرين كتاباً بحثياً راقياً، وآخرين من أكفأ الأساتذة الذين عرفتهم في حياتي منهم الدكتور سليمان فرج بن عزون عميد كلية الآداب أستاذ علم الاجتماع.

فالذي شاهدته بعد غياب قهري يشرّف كل القائمين على إدارتها من بعد قيام الوحدة المباركة وتناوب بعض أفضل الإداريين على تسيير دفة الحكم فيها من المحافظ القدير أحمد الكحلاني إلى الشباب الأكفاء الذين ينفذون توجيهاته. بالطبع هناك من لا يقوم بواجباته على أكمل وجه أو حتى نصفه، ومنهم من لا يداوم على عمله ومن لم يداوم خلال معظم أيام شهر رمضان الماضي، وآخرون يفسدون ما أصلح غيرهم أو يعتدون على ممتلكات غيرهم بالقوة. لكن عموماً هناك عدن جديدة ابتداءً بالطرقات الحديثة والمباني النظيفة والفنادق الراقية والمتوسطة وبعض المدارس الجديدة، وإن كانت الجامعة الرائعة بأساتذتها ومنسوبيها بحاجة ماسة إلى الإصلاح وإعادة التأهيل، مع أن موقعها المواجه لشاطئ أبين يساوي بعض أجمل المناظر التي سحرتني في جزيرة بينانج الماليزية. وعدن في الأصل جزيرة أوصلها البريطانيون بعد الاحتلال بالشيخ عثمان بواسطة (كوبري) بردم البحر سموه البرزخ أو (إسمس) بالإنكليزية ابتداءً من موقع فندق عدن الذي يكاد يستغيث بأصحابه لإعادة تأهيله بعد مرور ربع قرن على بنائه وتناسي مسألة ترميمه وتغيير طلائه ومفروشاته، وسرني أن ذلك سيحدث خلال الأشهر الستة القادمة بإذن الله كما بشرني مديره العام.

وإذا كان ما تقدم لا يعني أبداً أن عدن قد بدأت اللحاق بمثيلاتها من المدن مثل بينانج والبحرين وسنغافورة إلا أن موقعها الجغرافي الفريد وبحارها وجبالها وأهلها واستثمارات المغتربين والمواطنين، قادرة على تحويلها إلى فردوس سياحي وميناء حر ناجح بمرور الزمن، طالما أن هناك استراتيجية مدروسة موضوعة بالتعاون الوثيق مع إدارة المحافظة وخبراء الجامعة الموثوق بعلمهم وكفاءاتهم.

لكن الوضع هناك ليس كله على ما يرام ولا أقول سمناً وعسلاً، لأن السمن البلدي يحمل معه الكوليسترول الذي يضر بالقلب ويسبب بعد وقت قصير أمراضاً لا تحمد عقباها، كما أن الإفراط في العسل يؤذي الصحة ويؤدي إلى مرض السكري أو يفاقمه. فهناك بطالة متفشية وطرقات داخلية غير معبدة، كما أن نظام النظافة الحالي بحاجة إلى توسيع ليشمل الأحياء حتى الخلفية منها، وانقطاع متكرر للطاقة بسبب الانفجار السكاني، وعدم توفير مياه الشرب لكل البيوت أيضاً بسبب البناء العشوائي الذي لا ذنب للحكومة فيه بالضرورة كما رأيت بشيء من الألم في المنطقة الواقعة بين الساحل الذهبي (جولموهر) والمعلا بعد تجاوز القلوعة والشيخ إسحاق سابقاً.

البطالة مؤسفة وأشقى ممن يعانونها هم الذين يعيشون تحت خط الفقر، وإن كان بعضهم يتحمل مسؤولية ذلك بإدمانهم مضغ القات والدخان حتى ولو على قارعة الطريق. وقد رأيت ذلك عياناً في الوقت الذي يحتاجون فيه إلى اللقمة النافعة وقميص نظيف وفوطة أنظف، و(يسعلون) حتى يلفظوا ما في أفواههم. لكنها مشكلة تفوق قدرات أعظم عقول اليمن لحلها بعدما اعتمد مليونا نسمة وأكثر على (صناعة) القات، أي أكثر من المشتغلين في صناعة السياحة المصرية.

قبل الوصول إلى الشيخ إسحاق كنت في فندق شيراتون على مائدة غداء في ضيافة الدكتور عبدالواهاب راوح أقامها على شرف الأستاذ عبدالعزيز عبدالغني، رئيس مجلس الشورى ومحافظ عدن الأستاذ أحمد الكحلاني وكوكبة من الأساتذة، فوجدتها فرصة لمقارنة الفندق بنظيره (بارك رويال) في جزيرة بينانج الماليزية. مبنى جميل ومسابح وشاطئ أجمل ومستوى رفيع من النظافة والخدمة. فعدن محاطة بالمياه على البحرين العربي والأحمر وبذلك تمتلك إمكانيات أساسية لتصبح إحدى الفراديس السياحية في المستقبل إذا ما أحسنت استغلال مطار عدن الجميل بزيادة عدد الرحلات الدولية التي تقلع منه لأنه بحاجة إلى حركة سير مستمرة ليلاً ونهاراً بدلاً من تركه خالياً على عروشه ينتظر طائرة أردنية مرة كل أسبوع ويمنية إلى جدة مرة كل ثلاثاء، رغم قدرته على استيعاب العشرات كل يوم لإنعاشه ومضاعفة مبيعاته وتنشيط الفنادق وشركات السيارات السياحية، وبالتالي زيادة عدد موظفيه وعدد المستفيدين من إحيائه خارج حدود سياج المطار، مما سيؤدي إلى بناء صفوف من المعارض- الدكاكين- لاستقبال السياح القادمين لليلة أو ليلتين ترانزيت إلى داخل الوطن أو خارجه.

وغادرتها نهاراً بعد عشرة أيام من الهناء الغامر، بكثير من الحسرة كمن اضطر إلى ترك أغلى الناس إليه في أحب البقاع إلى قلبه.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى