أخر تحديث للموقع
الأحد, 22 يونيو 2025 - 02:35 ص بتوقيت مدينة عدن

مقالات الرأي

  • التعليم في زمن الحرب: كيف نُبقي الأمل حيًا؟

    م. عبدالناصر صالح ثابت




    لقد أخذت الحرب وسنوات الانقسام من اليمن أكثر مما يمكن للعقل أن يتصور. ولعل من أكبر الخسائر التي لحقت بنا هي تدهور التعليم، هذه الخدمة التي لا تقوم الأوطان بدونها، والتي تُعد أساس بناء الإنسان والمجتمع. لم تعد المدارس كما كانت، ولا الجامعات بمكانتها، واختلت منظومة التعليم الرسمي، حتى أصبحت الفجوة بين واقعنا ومعايير التعليم في العالم شاسعة، موجعة.

    لقد سرقت السنوات العجاف من التعليم كل ما يستند عليه: دُمرت آلاف المدارس، وأُوقف تطوير المناهج، وزُرع فكر الصراع في حنايا الكتب، وأُجبر المعلمون والطلاب على الخروج من بيئة التعلم إلى واقع التيه. ورغم كل هذا الخراب، ظل هناك بصيص من الأمل؛ معلمون ما زالوا يحملون في صدورهم ضميرًا حيًا، وأمهات يعلّمن أبناءهن بما استطعن، وشباب يقدمون دروسًا تطوعية في الأحياء، وآخرون يحاولون استغلال ما توفر من أدوات رقمية رغم رداءة الإنترنت وانعدام الدعم.

    وفي ظل هذا الواقع، لا يليق بالمعلم أن يستسلم، أو يكتفي بتعداد الخسائر، أو يركن إلى البطالة المقنّعة، أو يبرر الإضراب بلا بديل. بل عليه، من موقعه الإنساني والمهني، أن يسهم بما يستطيع في تعليم من حوله. فالحاجة إلى من يُعلِّم اليوم أشد من أي وقت مضى، والطلاب التواقون إلى المعرفة حاضرون في كل حي وزقاق، ينتظرون فقط من يمد إليهم يد العون، ويشعل في داخلهم شمعة التنوير والطموح.

    نعم، الوضع المعيشي قاسٍ، والضغوط أكبر من أن تُحصى، لكن الواقع أيضًا يخلق وقتًا كبيرًا فارغًا نتيجة توقف مؤسسات الدولة. ولعل المعلم، حين يملأ جزءًا من هذا الوقت في تعليم غيره، يكون قد قدّم للمجتمع خدمة عظيمة تستحق التبجيل والتقدير.

    فاليوم، لم يعد التعليم حكرًا على الفصول الدراسية. يمكن أن يحدث في بيت صغير تقرأ فيه أم مع أطفالها، أو في موقع عام يجتمع فيه بعض التلاميذ، أو عبر هاتف بسيط يحمل درسًا من معلم تطوّع من بيته. المعرفة لا تحتاج إلى مبانٍ ضخمة، بل إلى إرادة ونوايا صادقة وعقول منفتحة.

    كل من يسهم في استمرار التعليم هو بطل بصمت؛ المعلم الذي يواصل رغم الجوع، الأم التي تراجع دروس ابنها وسط همومها، الأب الذي يوجّه أبناءه نحو التعلم بدلًا من الضياع، الشاب الذي يعلّم أطفال الحي مجانًا، وحتى ما تبقى من ضمير في بعض المسؤولين الذين يسخّرون الإمكانات المحدودة لدعم المعلمين وتعزيز دورهم... جميعهم جذوة أمل لا تلتقطها الكاميرات، لكنها تُنير طريق المستقبل من خلف الظلال.

    إن التعليم لم يعد مجرد خدمة حكومية، بل تحول إلى فعل مقاومة ضد الانهيار. وحين نحافظ على تعليم أبنائنا، فإننا نُبقي جذوة الحياة مشتعلة، ونمنح الوطن فرصة للنهوض من تحت الركام. قد لا نملك إنهاء الحرب أو إصلاح كل شيء، لكننا نملك ما هو أثمن: أن نحمي عقول أطفالنا من أن تصبح ضحايا للظلام والفراغ.

    فالتعليم لا يقتصر على نقل المعلومة، بل هو جدار صدّ في وجه الكثير من الانحرافات. بالتعليم والتوعية المستمرة، نستطيع أن نحد من انتشار المخدرات، وتعاطي القات، وانزلاق الشباب إلى مسارات التيه والضياع. فبالعلم والثقافة، نؤسس لمجتمع واعٍ، يختار مستقبله بيديه، ويحمي أبناءه من السقوط في مستنقعات لا عودة منها.

المزيد من مقالات (م. عبدالناصر صالح ثابت)

Phone:+967-02-255170

صحيفة الأيام , الخليج الأمامي
كريتر/عدن , الجمهورية اليمنية

Email: [email protected]

ابق على اتصال