بمناسبة مرور 120 عاماً على بدء الخدمات الطبية في مدينة الشيخ عثمان (ديسمبر1886م - ديسمبر2006م) .. حول تأسيس ونشاط مستشفى البعثة الاسكتلندية (كيث- فالكونر) أو ما درج على تسميته بـ(مستشفى عفارة)

> «الأيام» د.علي محمد سعيد الاكحلي:

> على فترة سبعة عقودِ تقريباً (1886م - 1956 م)، أثرت بعثة كيث فالكونر الطبية في الشّيخِ عثمان(عدن) على حياةَ عشراتِ الآلاف من الناسِ في جنوب غرب بلاد العرب. وإليكم سرد موجز من محطات تاريخ هذا المستشفى العظيم.

مؤسس المستشفى

ولد السيد آيون جرانت نوفيل كيث- فالكونر(1) (Ion Grant Noville Keith-Falconer) في مدينة ابردين الاسكتلندية عام 1856م. إضافة إلى كونه قد تخرج من جامعة كامبردج كباحث في اللغات العربية والعبرية، كان كيث-فالكونر واعظاً في الكنيسة وبطلاً في ركوب الدراجة. وبقدر اهتمامه باللغة العربية الكلاسيكية، صعد اهتمامه باللهجة العربية الدارجة (العامية)، وقام بزيارة الى مصر وفلسطين (عام 1881م) ، حيث وطدت زيارته هذه علاقته باللغة العامية وبالعرب المسلمين وقفل راجعاً الى بلاده بعد زيارة دامت سنتين. إلاّ أن أفكاره كانت دوماً تشده الى مدينة عدن، هذه المدينة التي تعتبر مستودع عبور للتجارة الخارجية البريطانية (خصوصاً بعد افتتاح قناة السويس في مصر عام 1869م وبدء الأنشطة الاقتصادية والتجارية بالازدهار في مدينة عدن - المترجم)، وكذا أهمية هذه المدينة التي كانت تمثل نقطة تلاقي القوافل الآتية من الداخل. في عام 1885 قام هو وزوجته بزيارة استطلاعيةَ إلى عدن ، حيث مكث هناك لبِضْعَة أشهر في بيت من طابق واحد يَقعَ فوق مهماز صخري على يسار الممر الذي يسير منحدراً الى مدينة كريتر(2). وقد ألهمته هذه الزيارة الى تَأسيس بعثة تربوية وطبية في مدينة الشّيخِ عثمان بشكل مبدئي وعلى نفقتِه الخاصةِ (ولكن بدعم من الكنيسة الاسكتلنديةَ). وهناك تحَصلَ على قطعةِ الأرض التي بنى عليها مجمع البعثة والذي حْملُ اسمَه لاحقاً. واختار السيد أيون منطقة الشيخ عثمان لإقامة المستشفى فيها بسبب وجود الماء في بعض الآبار التي كانت محفورة فيها أو قريبة منها، وكذلك وجود الأشجار والهواء النقي الذي كان تفتقده مدينة كريتر، إضافة الى كونها مركزا جيدا ورأس حربة باتجاه مناطق ريفية عديدة قد تحتاج الى خدماتهم.

قام السيد كينيث- فالكونر بتأسيس البعثة رسمياً في شهر ديسمبر من عام 1886 وكان عمره حينئذ ثلاثين عاماً.

وفي منتصف شهر مايو من العام التالي( 1887م) ، وبعد خمسة أشهرِ فقط من عودته إلى عدن وبَدْء عمل البعثة ، توفي السيد كيث- فالكونر ، على اثر استنزافَه بالهجماتِ المتكرّرةِ مِنْ مرض الملاريا، والذي كانت أسبابه وعلاجِه مجهولة في ذلك الزمن. ودفن السيد ايون كيث - فالكونر في مدينة عدن.

محطات من تاريخ المستشفى

(1) قام الدكتور كوينCowen الذي اصطحبه السيد كيث - فالكونر معه عند مجيئه الى عدن بإدارة المستشفى بعد موت الأخير وبمساعدة من الدكتور باترسون وممرض آخر ولمدة خمس سنوات ، أي حتى عام 1892م.

(2) في عام 1893 ترأس البعثة الدكتور جى. سي. يونج (J.C.Young) وعمل في المستشفى لمدة 33 عاماً (حتى عام 1926) حيث تقاعد بعد ذلك من الخدمة وتوفي في العام التالي في المنزل الذي عاش فيه.

وخلال فترة عمله، وتحديداً في عام 1897م، قامت البعثة ببناء كنيسة كينيث-فالكونر التذكارية في المدينة. وقام الدكتور يونج بدور القس عند زيارة بعض الأفواج الحربية التي كانت تنزل بين الحين والآخر الى المدينة.

(3) في عام 1904م ، قُرّرتْ البعثة الاسكتلندية ان تكرس نفسها للعمل الطبي فقط واستبعاد العمل في المجال التربوي طالما وأن البعثة الدنماركية التبشيرية قامت خلال الفترة نفسها بالعمل في مدينة عدن وركزت نشاطها على مجال التعليم (فتحت مدرسة ابتدايئة في مدينة كريتر -حافة الشريف - المترجم).

(4) خلال الحرب العالمية الأولى (1914م-1918م) وقع حدث درامي أثر في مجرى حياة مستشفى البعثة الجديد، حيث نزل الأتراك فجأة من الأراضي الشمالية باتجاه الجنوب ووصلوا الى مدينة الشيخ عثمان ونهبوا محتويات المستشفى وحَملوا معهم كُلّ شيءَ قيم! وجرى قتال شرس بين الأتراك وأعضاء البعثة من البريطانين دارت رحاه من غرفة الى أخرى داخل أروقة المستشفى، أصيب خلاله الدكتور يونج برصاصة في جسده ، إلا أنه ظل حياً يرزق ، وأغلق على أثره المستشفى بشكل مؤقت.

(5) بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها في عام 1918م وانهزام تركيا وانسحابها من اليمن، عاود المستشفى العمل من جديد. وفي عام 1923م، وبعكس القرارِ المتخذ عام 1904 حول تركيز عمل البعثة على الجانب الطبي، قامت البعثة بافتتاح مدرسة للتعليم بالقرب من مقر المستشفى، وهو ما نادى به مؤسس البعثة السيد كينيث- فالكونر من أن تكون مهام البعثة طبية تربوية.

(6) في عام 1926م ترأس البعثة الدكتور باتريك باتراي (Patrick Petrie) بعد تخرجه مباشرة من جامعة ادنبرة ِ، حيث صرف العشرين سنة التالية من حياته في جنوب غرب بلاد العرب (حتى عام 1946م)، بما فيها ستّ سَنَواتِ تقريباً في مدينة صنعاء (الأعوام 1937 - 1943). ولد الدكتور باتراي في عام 1903م وتوفي في عام 1986م.

حالة استثنائية ذات مغزى كبير أثرت في عمل المستشفى ألا وهي التحاق الدكتوراليمني أحمد سعيد عفارة (3) الذي كان له تأثير في أوساط المجتمع في منطقة الشيخ عثمان بالعمل مع الدكتور باتراي .

(7) تم توسيع نشاط البعثة لتشمل تدريب شباب من المحميات المجاورة لمدينة عدن لعمليات ضرب الحقن والمجارحة وصرف الأدوية، وكانوا يتعلمون في مقر البعثة في الشيخ عثمان، وكان أطباء البعثة يزورونهم بشكل منتظم، وتم تأهيل حوالي 20 شابا من هذه المناطق التي تبعد مسافة 60 - 200 ميل من مدينة عدن.

(8) في أواخر الأربعينيات ، قامت السيدة عفارة بتنفيد برنامج منح الحليب المجاني بتشجيع ومساعدة زوجها الدكتور أحمد عفارة وبفضل المساعدة المالية من بعض الميسورين من المواطنين المحليين، حيث كان يأتي الى المستشفى يومياً 70 طفلاً يعطى لهم الحليب وكذا بعض الحبوب من زيت كبد الحوت (Cod Liver Oil) وكذا الكالسيوم. وهذه الخطوة شجعت الحكومة على تبنيها حيث فتحت مراكز في مناطق مختلفة من المستعمرة وفي مدارس عدن.

(9) في عام 1953م وبسبب الفيضانات التي حدثت في منطقة (أبين)، انتشر مرض الملاريا وبدأ يفتك بأرواح العديد من المواطنين. وبتوجيه من الخدمات الصحية لمحميات عدن قامت البعثة بالتصدي لهذه المهمة بنجاح وسيطرت على الوباء.

(10) كان كل من الدكاترة: برنارد والكر وريموند سميث وأحمد عفارة هم آخر رعيل من أطباء البعثة الاسكتلندية، حيث آل هذا المستشفى الى الحكومة للإشراف عليه في عام 1956م.

موجز عن نشاط المستشفى

كان في المستشفى 80 سريرا وكان دائماً مشغولا، بل إنه كان يعطى لبعض المرضى فرشان ليناموا على أرضية المستشفى، وكان المستشفى يقوم بالعديد من العمليات الجراحية مثل: أحجار الحالب، الهرنيا (الفتق)، البروستاتا، الكسور المترتبة من سقوط الأشخاص من السيارات أو الجمال، أمراض العيون المختلفة، أمراض النساء، وكل أنواع الأمراض التي تتطلب التدخل الجراحي. قام المستشفى بالتطبيب والمعاينة في العيادات الخارجية لكثير من الأمراض مثل الملاريا، الدوسنتاريا، البلهارسيا، قرحة المعدة، السل الرئوي، سل العظام، أمراض سوء التغذية، التهاب اللثة...إلخ.

في مطلع الخمسينات أدخل المستشفى جهاز الكشف يالآشعة السينية (X-Ray) مع كل لوازمه.

وكانت العيادات الخارجية تعمل 4 أيام في الأسبوع:

يومان للنساء ويومان للرجال، وقد كان الناس بالمئات ينتظرون دورهم. وفي يوم الثلاثاء من كل أسبوع، كانت تنجز في المتوسط 6 عمليات كبرى و6 عمليات صغرى. أما عمليات حالات الطوارئ فقد كانت تجرى كل يوم.

رغم أن الحقبة التي عملت فيها البعثة اتسمت بوجود المستعمر البريطاني في مدينة عدن ، إلا أن أعضاء البعثة قوبلوا بترحاب شديد في كل الأوقات من قبل المواطنين وبمودة وصداقة تقليدية غير معهودة!

هوامش

من المترجم: إن كل ما يفترض تكريسه كعرفان لما قام به أعضاء البعثة خلال سبعين عاماً من العمل المتواصل والدوؤب ونكران الذات في سبيل خدمة الناس البسطاء دون مقابل، تاركين خلفهم كل ملذات الحياة في بلادهم الأم، هوعمل نصب تذكاري صغير في نفس موقع المستشفى يكون شاهداً ومخلداً لعمل البعثة الخيري، وهو أقل ما يمكن أن يعمله المجلس المحلي لمديرية الشيخ عثمان بهذا الشأن.

(1) كيث- فالكونر: تكتب ككلمة واحدة بينهما شرطة، وفالكونر تعني «صائد الصقور».

(2) المنزل يقع في منطقة العقبة وهو على يسار بوابة عدن التاريخية (عقبة عدن) نزولاً الى مدينة كريتر في الجهة المقابلة لمصرف اليمن -البحرين الشامل (حالياً).

(3) الدكتور عفارة من مواليد عام 1910 وكان متزوجاً من سيدة من أصل فلسطيني اسمها (نصرة) وهي من مواليد 1919م .

تحصل على تدريباته الطبية في مدينتي ليفربول وأدنبرة وعمل في مستشفى البعثة حتى عام 1956م، ثم غادر الى اسكتلندة .وتوفي هناك في عام 1968م، حيث تم دفنه في منطقة (ميدل أوثيان) الى جانب قبر الدكتور باتراي وزوجته اليانور، ثم دفنت زوجة عفارة في المقبرة نفسها في عام 2003م.

المراجع التي تمت الترجمة منها:

1- الجمعية البريطانية اليمنية - مقالة «طبيب في بلاد العرب» - بقلم باتريك دبليو . آر (1903- 1986م).

2- الجمعية البريطانية اليمنية - مقالة «بعثة كيث- فالكونر» - بقلم اتش كيه روبرتسون (1886 - 1963م).

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى