رامبو في جحيم عدن

> «الأيام» فاروق لقمان:

> قرأت بمتعة كبيرة «عدن في كتابات الرحالة الفرنسيين» للأستاذ الجامعي الدكتور مسعود عمشوش الذي تخصص بالفرنسية ويدرّسها حالياً وكان أحد أسباب متعتي أن قراءاتي السابقة عن اليمن عموماً وعدن خصوصاً كانت بالعربية والإنكليزية منذ الصغر ولم أقرأ عن الوطن بأي لغة أخرى إلا إذا كانت مترجمة إلى إحدى اللغتين.

لذلك رحبت بكتاب الأستاذ مسعود ،لأنه مدني بمادة مفيدة عما قاله الفرنسيون عن عدن لاسيما حديثه عن الشاعر (آرثر رامبو) والتاجر (أنتوني بيس) وهو الذي أسس شركات لا حصر لها سيطر بواسطتها على التجارة والصناعات المحدودة، وعند نهاية مشواره، على شركة طيران كانت نواة لشركة عدن للطيران (إيدن آيرويز) التي كان مكتبها الرئيسي يقع في خورمكسر قريباً من المطار. وبعد مغادرة البريطانيين للمستعمرة أسس الأخوة الكرام أبناء باهارون زين وعيدروس وحسن وعلوي شركة خاصة سموها (باسكو) حتى أمرت حكومة الاستقلال عام 1969 بالاستيلاء عليها وطرد أصحابها منها كما فعلت بغيرها من المؤسسات الأهلية.

لكن حديثي اليوم يدور حول شخصية الشاعر الفرنسي (آرثر رامبو) كما استقيته من كتاب الأستاذ عمشوش.

كنت طبعاً قد قرأت عنه الكثير فالبيت الذي عاش فيه كان مواجهاً للمنارة العتيدة - ربما أشهر معلم في عدن قاطبة، بعد الصهاريج- بجانب الاستاد الرياضي . وأصبح المبنى فيما بعد مقراً لشركة (أريبيان تريدنج) المواجهة لمكتب البريد ومكتب وزارة العمل في شارع محمد علي لقمان وعلى مرمى حجر من دار «الأيام» وتطورت إلى واحدة من أبرز الشركات البريطانية في المستعمرة ويضم اليوم فندقاً يحمل اسم رامبو.

قرأت كل ما كتبه الأستاذ عمشوش لأستنتج أن الرجل لم يكن يستحق كل ذلك التهليل والتهويل كشاعر فرنسي كأنه من الطراز الأول ،لأنه كما يقول المؤلف لم يكتب إلا القليل من الشعر المتوسط الجودة لبضع سنين فقط 1872- 1875.

وظل يتنقل بين عدن وهرر في الحبشة ويحيا حياة شبه بوهيمية اتسمت بعدم الاستقرار ، إذ كان مهووساً بالترحال قليل الحظ في جمع المال.

وصل رامبو إلى عدن عام 1880 موظفاً صغيراً ، ينفق ستة فرنكات يومياً لم تكن كافية لتسديد مصروفاته إلى درجة أنه كتب في رسالة إلى أهله في فرنسا «أن كل شيء غال جداً ».

تصور كل شيء غال في عدن 1880 عندما كان راتب المعلم في الابتدائية لا يتجاوز خمس روبيات هندية.

ماذا كان سيقول عن أسعار اليوم عندما يتجاوز صحن الكبدة البلدي في المطعم ألف ريال يمني؟!

ثم تحصل على وظيفة أفضل يقول عنها: «عندما أقول لكم إنني أعمل مقابل ستة آلاف فرنك سنوياً فإنني أضيف إلى هذا المبلغ قيمة الطعام والسكن التي تدفعها الشركة نيابة عني. فكل شيء غال جداً. لا أشرب إلا الماء ويلزمني منه ما قيمته 15 فرنكاً شهرياً. لا أدخن مطلقاً وأرتدي ملابس قطنية ولا أدفع أكثر من خمسين فرنكاً في السنة للحلاقة. إننا نعيش هنا في ظروف رديئة جداً وبتكاليف مرتفعة للغاية. طوال السنة ننام في الهواء الطلق، ومع ذلك فالسكن يكلفني أربعين فرنكاً شهرياً».

ووصف في رسالته عدن بأنها «أضجر مكان في العالم».

ولما أصيب بحمى هضمية أصبحت معدته ضعيفة وحساسة وتدهورت صحته قال: «إن سنة هنا تساوي خمس سنوات في مكان آخر».

ولعل من حسن الطالع أنه لم يكتب شعراً في عدن وهو في تلك الحالة المزرية. لا يفارقه الضجر ولا يقف عن التذمر.

إذ يقول في رسائل بتاريخ 14 أكتوبر و26 مايو 1884: «توقعاً لحرب - أي بين بريطانيا وفرنسا - بدأت السلطات هنا ترميم المواقع الدفاعية. سيسرني أن ينقلب هذا المكان رماداً، لكن ليس وأنا فيه. وعلى كل حال، أتمنى أن لا أضطر إلى تبذير جزء آخر من حياتي في هذا المكان».

وكما يقول المؤلف بحق إن أحكام رامبو على عدن كانت مغالية في السلبية ، فالرجل كان يكره البلاد وأهلها وجوها إلى درجة الجنون. فلماذا إذاً ظل فيها ، إلا إذا كان فاشلاً في كل ما فعله ولم يجد أمامه فرصة أفضل إلا الخدمة في هرر التي لم يعرف عنها إلا أنها محطة لتصدير البن الحبشي وفي القرن العشرين القات الهرري إلى عدن.

يقول المؤلف:«أما أطول وصف لموقع عدن فنجده في الرسالة التي بعثها إلى أهله في 28 سبتمبر 1885، التي يقول فيها:«لا يمكنكم أبداً أن تتصوروا هذا المكان.

لا توجد أية شجرة هنا، حتى يابسة، ولا عود قش، ولا قطرة ماء عذبة، ولا ذرة تراب. فعدن قعر بركان ساكن ومطمور بالرمال البحرية. ولا يمكن أن نرى فيها إلا الصخور البركانية والرمال حيث لا يمكن أن ينمو أي نبات».

«حول عدن تمتد صحراء رملية قاحلة تماماً. لكن هنا في عدن تمنع جدران البركان وصول الهواء الينا.

لهذا نشتوي- من الشواء- في قعر هذا الجحر، كما لو أننا في فرن جير.

إن المرء ينبغي أن يكون مجبراً على البحث عن لقمة العيش كي يقبل العمل في مثل هذا الجحيم».

حسناً. إذا كانت عدن عام 1880 تعاني من كل تلك البشاعة في المناخ والطعام والماء والمسكن والغلاء وقلة الدخل ما الذي أكرهك يا رامبو على البقاء فيها بعد الشهر الأول لوصولك وماذا تركت من تراث شعري خالد عنها.

بل أنه من حسن حظنا أنك لم تكتب شعراً عنها وأنت مقيم فيما وصفته بالجحيم.

أغلب الظن لدي بعدما قرأت الفصل في كتاب الأستاذ عمشوش هو أن رامبو كان يعاني من حالة أو حالات نفسية خطيرة أقلها اكتئاب مزمن رافقه ونجم عنه انفصام حاد من الطراز الذي يؤدي بضحاياه إلى عيادات الطب النفسي لعلاج طويل الأمد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى