دلالة محاكمة القاضي البابكري .. لا شرعية لنظام سياسي لا يقوم على استقلال القضاء

> أبوبكر السقاف:

> مادام القضاء هو الحارس الأمين على العقد الاجتماعي جملة وتفصيلاً فإنه أشبه ما يكون بالمتخلل (التوموتيف) الأساسي الذي يسري في اللحن الموسيقي فيشكل روحه وإيقاعه وأصداءه العميقة في شعور السامع ووعيه، وبدونه لا تكون للحن أية دلالة جمالية ويفقد وحدته ومعها وظيفته، ومراميه. ولا نجد مجتمعاً نسب نفسه إلى صورة من صور الديمقراطية، إلا وكانت العدالة، أي القضاء حاضراً بصورة فاعلة فيه، وهي لا تحسن أداء أي نظام بل تحميه من كل ما يهدد السلامة العامة. وهنا أحد أخطر معاني مبدأ الفصل بين السلطات، أي استقلالها وتكاملها في متحد واحد تعمل أطرافه معاً. ولذا قال أحد القانونيين إن استقلال القضاء وحصانته في جميع الدول الديمقراطية ضمان للأفراد وليس امتيازاً للقضاء (د. محمد عصفور). وقد راع العالم الراحل جمال حمدان ما في وطنه من طغيان إحدى السلطات فكتب في كتابه المشهور شخصية مصر، دراسة في عبقرية المكان:

«لم يكن لمصر تقليدياً وعملياً إلا سلطة واحدة أساسية وطاغية هي السلطة التنفيذية والباقي ظلال شاحبة أو ضامرة، مجرد أعضاء تكميلية وأطراف مساعدة للجسم الأساسي. قل كذراعين أو جناحين متواضعين. واحدة مبرر نيابي والأخرى محلل قانوني، واحدة كامو فلاج (ستار، قناع، أ.س) ديمقراطي والأخرى مكياج دستوري».

ولذا بدأ الهجوم على مبدأ الفصل بين السلطات بعد حركة الجيش في العام 1952م في مصر بما عرف بأنه مذبحة القضاء الأولى في العام 1954، ثم بالمذبحة الثانية في العام 1969بقانوني إنشاء المحكمة العليا رقم 81 لسنة 1969 وإنشاء المجلس الأعلى للهيئات التضامنية والقانون رقم 82 لسنة 1969 الذي جعل السلطة في يد هذا المجلس ونص على أن رئاسته لرئيس الدولة، أو وزير العدل في حال غيابه، في آخر سنة من حكم الراحل عبدالناصر، ثم قنن دستور السادات في العام 1971، مستنداً إلى بيان 30 مارس 1968م، وتوالت القوانين التي أوصلت الأمور إلى الاعتداء الجدي على القاضيين السطاويس ويكن، ثم محاكمتهما،لأنهما تحدثا علنا عن دور التزوير في الانتخابات. ولا يزال القضاء المصري في محنة قاتلة، ولكن القضاة يقاومون ومعهم الروح الجديدة التي سرت في ربوع الكنانة فهز خريف العام 2004م، والذي غير المناخ النفسي وأدخل الشجاعة في ميدان الدفاع عن القضايا العامة.

حالنا في اليمن السعيد أسوأ من حال أخوتنا في مصر، فهناك رغم كل ثقل الدولة الأمنية مؤسسات لا تزال تقاوم. أما نحن فقد ورثنا عن الإمامة قضاء ملتويا يخرج الظلم في إطار مماحكات فقهية بليدة أقرب ما تكون إلى فقه الحيل. وأضافت إليه الجمهورية القبلية ظلماً يتميز بالفجاجة ويصل إلى اقتراف جريمة القتل ويعتدي على القضاة في المحاكم، كما حدث غير مرة على يد شيوخ وضباط في الجنوب أكثر من الشمال. والقوانين فيه لا تعترف بقاعدتي العموم والتجريد، اللتين بدونهما يفقد القانون صفته، ويخضع للأعراف والامتيازات.

إن ظهور قاض نزيه ومستقل وشجاع حكم على أفراد من المؤسسة العسكرية قرنوا النهب بالقتل العمد وتمكنوا من الهروب من وجه العدالة محتمين بعصبية عسكرية هي عصب مقرر في النظام القائم الذي يتكون من مركب مزجي من الجيش والقبيلة أثار خوف السلطة، ومن هنا بدا لهذه العصبية أن الحكم الذي أصدره البابكري اقتحم قدس الأقداس، فلا بد من الحيلولة بينه والتكرار، ولا بد من جعل الحكم التأديبي للبابكري «رأس الذئب الطائر» حتى لا تسري عدوى العافية في جسد القضاء المريض، إحدى أخطر وسائل الفساد بعد القوة وأخطر أقنعتها.

أدهشهم وأخافهم هذا الرجل، فهو مشكاة تبعث دفئاً ونوراً في ليل القضاء البهيم، وحمايته بكل أشكال التضامن ستعزز قضية العدالة في هذه البلاد وتساعد الناس على مغالبة زحف الظلم المنظم، وبناء شرعية جديدة يكون القضاء المستقل أحد أركانها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى