نفحات الفخري

> فضل النقيب:

>
فضل النقيب
فضل النقيب
أنا ما لي ولعبدالرحمن فخري أشغل نفسي به، كأنني مُوكَّلٌ بفضاء «الشعر» أقطعه، والشعر عند صاحبنا ليس كتابة فقط، وإنما أسلوب حياة، وتجلّيات روح ونار مجوسية لا تنطفئ إلا إذا انقضت الحياة، كما أنه العشق وعيون النساء الفاتنات، ولُهاث الجسد، وعَرَق الرغبة يلملمه ليودعه في الكلمات ثم يعيش عليها مثلما المجنون يعيش على جنونه، ويسعد به أيما سعادة. صاحبي «المجنون» هذا يترهبن في دارته بحافون، يطارد الكلمات وتطارده، وقد تعجبت كثيراً حين هاتفته الأسبوع الماضي أنه مازال يتكلم لغتنا وبأفصح منا: يا عبدالرحمن أشباهٌ عوادينا، يأتي الصوت مجلجلاً مليئاً بأجراس الفرح، ونعمة العزلة وزهادة النفوس الكبيرة التي قال عنها المتنبي:

وإذا كانت النفوس كباراً

تعبت في مُرادها الأجسام

إذاً مازال صاحبي حياً يرزق فهل يعطيني الأمان؟ تخيلته ذات انجذاب إلى عالمه أنه يراقص ظلال المصابيح في ديره عارياً إلا من قصيدة، ثم يبرُك على ركبتيه جاثياً أمام آلهة الشعر: سيدتي: هل تتعطفين عليّ بحرف مُضيء، بكليمة معتّقة في دنان الزمن المضمحل، بجملة شعرية أرتديها لكي يقبلني الشارع بين صعاليكه، بقصيدة أرقى بها معارج النجوم حين تخنقني الوحشة وتطبق علي المسافة. لا شك لدي بأن جنيات «عبقر» تدمع عيونهن حين يتفرسن عيني الفخري المليئتين بالأوابد المنقرضة، والأيائل المتشامخة، وأنقاض الجنان التي أصبحت خاوية على عروشها. الفخري عبدالرحمن على الخط، وأنا في تقلبات «الخط» حيث تتناسل الكلمات وتتقافز المعاني كالنجوم السابحة في المجرات، في هيولى الكون الراكض، لا بأس يا عبدالرحمن «إذا دارت بك الأرض قرْ» لن يقتلك بيتٌ من الشعر قتل المتنبي، ولا حلة مسمومة هرت أديم امرئ القيس، ولا صندوق مطهّم استضاف «وضاح» حتى الموت، ولا شرود طارد «القردعي» في الأحلام وجعل منه إحدى أيقوناتك. إن نبل اعتزالك الدنيا وانتباذك لها هو قصيدة القصائد فأنت تنظر من علٍ مستبطن إلى هوام الحياة تدب لمجرد السير إلى المجهول دون أن تطرح أي سؤال، وتنظر إلى الشعراء وبعضهم يقتات على الرمم ويزهو بها كالطاووس ذي الرائحة المنفرة، ألم تقل في عام 1972م «أنتم شعراء بالجملة وأنا أستحي من وجه (دبوان)».

في معزوفته «ندبٌ على شرف القردعي» من ديوانه المعنون «من الأغاني ما أحزن الأصفهاني» إعادة ترتيب للأشياء والأسماء وإعادة قراءة للخوابي التي دفنها الزمن وغطاها بالغبار المُضلّل، وكشف حساب عن زمننا يقدمه لزمن القردعي الموسوم بالنار والدم والخديعة، فهل من فارق وجده الفخري؟ لا أظن:

يا قردعي، كتاب وجهك يملأ الكف

هذا قصر فوق قبر

هذا ذيلٌ يتقدم الخيل

هذا زمنٌ بلا زمن

هذا وطنٌ بلا وطن

هذا أنا، وهذا أنت

ونحن في حيص بيص

في حيص بيص...

الفخري يترك الشعر ليقوله حين يصطحبان ويقول الشعر حين يتنافران وفي الحالين تجده آكلاً ومأكولاً، يترسم خطى صاحبه تريستان كوريير، القائل: «لا شيء.. إنني أكلم نفسي، ولكن تأثير كلماتي يطير، إنني أتكلم كما يعرف الأعمى الذي فقد بصره على المزمار.. خارج حدود اللحن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى