النظرة إلى التأريخ بعين الآخر

> جيل جوتيه:

>
بقلم: السفير الفرنسي جيل جوتيه (يسار) والسفير الألماني فرانك ماركوس مان في اليمن
بقلم: السفير الفرنسي جيل جوتيه (يسار) والسفير الألماني فرانك ماركوس مان في اليمن
في مساهمة توثيقية مشتركة بين فرنسا وألمانيا، يستذكر البلدان الطرق والأزمنة المتداخلة التي جمعتهما عبر التأريخ ..لمناسبة حلول ذكرى إبرام معاهدة فرساي بتاريخ 23 يناير 1963 بين البلدين، يعُد يوم توقيع المعاهدة عيداً المانياً فرنسياً. ولكن هل أن هذا اليوم مجرد تأكيد لعلاقة صداقة طويلة ومعروفة على النطاق العالمي؟ عند إمعان النظر في تلك العلاقة، سنجد أن هذا اليوم هو بمثابة نقطة تحول في علاقة تراجيدية تحولت إلى علاقة حميمة بعد ذلك بين البلدين.

يعد تاريخ الثاني والعشرين من يناير اليوم يوماً رسم مستقبل البلدين، حيث أبرمت الاتفاقية قبل 44 عاماً لتعزيز التعاون الفرنسي الألماني كوسيلة للوصول إلى أهدافهما المشتركة. واليوم تمثل تلك الذكرى قصة نجاح انبعاث علاقة ومصالحة بين البلدين، وكذلك تقبل تدريجي للآخر. إلا أن الماضي المشترك لهذين البلدين يذهب إلى ابعد من ذلك، فقد كان البلدان يتنافسان بشراسة على قصب السبق أيام الثورة الصناعية في أوروبا بعد نهاية الحرب الألمانية الفرنسية التي اندلعت بين عامي 1870 لغاية 18711. إلا أن فظائع الحربين العالميتين الأولى والثانية ساهمت في إصابة العلاقة بين الخصمين التاريخيين بالشلل التام.

ولكن كيف أمكن لتلك العلاقة أن تصبح اليوم وبعد كل المراحل التي مرت بها واحدةً من أكثر العلاقات حميميةً وشراكةً بين دول أوروبا؟ بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، تأسست جمهورية ألمانيا الاتحادية، وتولدت على إثر ذلك رغبة لدى الدول التي ذاقت ويلات الحرب في مصالحة تمخضت عنها بداية تشكيل اتحاد أوروبي في خمسينات القرن الماضي، تمثل في في محاولة تجاوز تبعات الحرب كأول خطوة. لقد تولدت رغبة لدى كلا البلدين في نسيان مآسي الحرب من أجل الأجيال القادمة. وتتحدث الصور التي توثق القمم الرسمية بين البلدين خلال الأربعين عاماً الماضية عن نفسها بوضوح، وكانت أبرزها تلك التي توثق العناق التأريخي بين المستشار الألماني "كونراد آديناور" والرئيس الفرنسي "شارل ديجول" عام 1963، ثم أعقبتها صورة المستشار "هيلموت كول" والرئيس الفرنسي "فرانسوا ميتيران" عام 1984 وهما يستذكران يداً بيد ضحايا مجزرة فيردان، واخيراً الصورة التي توثق حضور المستشار "جيرهارد شرودر" احتفال فرنسا عام 2004 بذكرى إنزال "النورماندي"، حيث يظهر المستشار يعانق الرئيس الفرنسي بحرارةٍ تعبر عن المصالحة الألمانية الفرنسية.

أبدت فرنسا رغبتها عام 1963 في تجنب مواجهة جديدة مع ألمانيا، وقد تحقق لها ذلك، حيث يتولى اليوم عدو الأمس رئاسة الاتحاد الأوروبي، فقد بدأت ألمانيا حراكاً واسعاً للدفاع عن مصالح أوروبا. أما فيما يتعلق بألمانيا، فقد تجلى موقفها آنذاك في الديباجة التي كتبها المستشار الراحل "كونراد آديناور" في اتفاقية 22/1/1963، والتي أكد فيها رغبة ألمانيا في استعادة وحدتها ودخولها في حلف الناتو. واليوم، تتولى ألمانيا حزمة مسؤوليات في نطاق الاتحاد الأوروبي وعلى النطاق الدولي أيضاً. إن أكثر ما يربط البلدين هو الرغبة المشتركة في مواصلة تحقيق التكامل الأوروبي الذي يتسارع بشكل مضطرد. وما يثبت تميز العلاقة الحلول التي قدمها البلدان معاً وصولاً لتحقيق هذا التوجه. وهكذا فقد أصبح أعداء الأمس أهم شريكين في تطوير الاتحاد الأوروبي.

في الوقت الذي كان يجهد فيه سياسيو البلدين في تقارب البلدين على المستوى السياسي ابتداءً، كان على مواطني كلا البلدين أن يثقوا ببعضهم. واليوم أمكن كسب تلك الثقة بفضل جهود جيل ما بعد الحرب في كلا البلدين، و التي تمخضت عنها ثقة كبيرة تجاه الآخر. وكان من ضمن المبادرات التي تصب في هذا الاتجاه هو تأسيس "جمعية صداقة الشبيبة الألمانية - الفرنسية" عام 1963، وقد أعقبت ذلك مئات المبادرات التي كان هدفها التقريب بين البلدين، فقد تمت على سبيل المثال توأمة بعض القرى والمدن بين البلدين بمبادرات ذاتية، وهي ما زالت تحتفظ بعلاقات صداقة وطيدة فيما بينها. كما أن هناك علامة فارقة تبين بجلاء هذا التوجه، ألا وهي تأسيس "برلمان الشبيبة الألماني الفرنسي" عام 2003. و من ضمن المقترحات في هذا السياق اعتماد مادة مدرسية مشتركة في التاريخ لتدرس في المدارس الثانوية بين كلا البلدين، وقد قدم هذا المقترح رئيس وزراء مقاطعة "سارلاند" الألمانية وووزير التربية والتعليم الفرنسي.

ومن المؤمل إصدار مجلد يجسد ما بعد عام 1945 باعتبارها السنة التي مثلت نقلة نوعية بين أوروبا والعالم حتى يومنا هذا، وهو مجلد شبيه بالمجلدين اللذين تناولا حقبة الانتقال من العالم القديم الى عصر الرومانتيكية ومن ثم الانتقالة التي شكلها التحول من القرن التاسع عشر الى القرن العشرين. وهذا المجلد سوف لن يجسد تاريخ دولة بعينها، بل تاريخ مجمل أوروبا، إذ إنه لا يمثل تجسيداً للتاريخ بين البلدين، إنما هو كتاب تاريخي فرنسي ألماني يتناول تاريخ دول جوار هذين البلدين ايضاً. "علينا أن لا نغفل أية موضوعات تعد محرمة التناول في هذا المجال"، يقول وزير التربية والتعليم الفرنسي. وفي هذا السياق، سيتم تناول الموضوعات التي تعد موضع خلاف بين البلدين، اضافة الى التركيز على اتفاقية فرساي والنقاشات التي رافقتها.

تعد المجلدات الثلاثة خطوة لاحقة في تاريخ البلدين من خلال توثيق تأريخهما المشترك. وسوف يصطحب طلاب البلدين هذا الكتاب الى المدرسة للاثبات ان أوروبا تتطور وانها تتجاوز رواسب الماضي.

وهكذا فقد أصبح أعداء الأمس أصدقاءً حميمين اليوم، وقد ساعد التقارب بين البلدين الأجيال الجديدة في البلدين النظر إلى التأريخ بعين الآخر أيضاً.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى