مفارقات القات والقوت في تظاهرة حضرموت

> د.سعيد الجريري:

>
د.سعيد الجريري
د.سعيد الجريري
كتبت قبل بضع سنوات مقالة في «الأيام» العدد (3650) 26/8/2002م عنونتها بـ (تنظيم القاعدة أم تنظيم القات؟)، على خلفية خبر نشر في «الأيام» العدد (3641) مفاده أن السلطة المحلية أمرت بنقل سوق القات حفاظا على نقاء الكورنيش ومظهره. وخلصت في تلك المقالة إلى أن المسألة لا تكمن في نقل السوق ومظهر الكورنيش ولكنها تتمثل في الجرأة على منع القات أو تقنيته -إن كان ولا بد - حفاظا على أغلى ثروة وطنية (الإنسان) من وبال فيروس القات الوبائي.

وها نحن اليوم نقرأ في «الأيام» العدد (5013 )- الأحد 11/2/2007م خبرا عن تظاهرة حرّكها موردو القات وبائعوه في المكلا احتجاجا على ارتفاع الضريبة!!

واللافت في هذه التظاهرة (النوعية) أنها تتقدم بأقدام ثابتة في الأرض، في تجمع كبير، فتغلق طرقات (الناس)، وليس ذلك فحسب بل تبيع القات في مسار التظاهرة على مرمى حجر من ديوان المحافظة، بدلا من بيعه في المكان المعهود المغلوب على أمره (حي الغليلة)!!، ويرفع المتظاهرون عقائرهم عاليا مطالبين السلطة المحلية (برفع الظلم عنهم) ويرون أن (ما يحدث من تعسف في ضرائب القات أمر لا يجب السكوت عنه)!! الله أكبر.

وفي خط مواز ضجت مدينة المكلا بأصداء هذه التظاهرة (التاريخية) المستفزة لمشاعر الناس، والدالة -من جانب معين -على أن ثمة فرقا في التعامل مع المتظاهرين.

وتساءل كثير من أبناء حضرموت الخير والهدوء والسكينة: ماذا كان سيحدث لو أن تجمعا كبيرا من مواطني حضرموت الذين يسحقهم الغلاء والقات والبطالة وأخواتها، خرج في تظاهرة، وأغلق الطرقات، ورفع المظلمات، وطالب برفع الظلم، أيا كان شكله، وأيا كان مصدره، وعبر عن رأيه بأن ما يحدث من تعسف بالغلاء والتخدير بالقات والبطالة والإفقار وعسكرة الحياة المدنية وإفسادها..الخ، (أمر لا يجب السكوت عنه) بتعبير المقاوتة؟ هل ستمر التظاهرة بسلام- وهي تظاهرة حق - كما مرت تظاهرة المقاوتة على ما فيها من تجاوز ببيع القات في غير المكان المعهود المغلوب على أمره؟!

لسنا نكره لأحد أن يشق طريقه بالطريقة التي تناسبه، لكننا نلفت الانتباه -وهذه ليست وجهة نظر- إلى أن للقات تاريخا في اليمن، لكنه طارئ جدا جدا على حضرموت (لم يكن له وجود حقيقي قبل 1990م)، ولم يدخل في نسيج العادات والتقاليد الحضرمية، لكن هناك من يعمل على نشر أسواقه سرطانيا بعمل مؤسسي وتنظيمي.. فيا للمفارقة!!

والغريب أن من يمثلون المواطن في مجالس المنافع ومؤسسات المجتمع الشعبية والدينية العلمية الأكاديمية والتربوية والثقافية، يتواطأون ضد المستقبل والإنسان، بالصمت حينا وبالتسويغ الكسيح حينا ثانيا، وبالإقبال على تعاطي القات في المجالس والمنتديات والمناسبات الوطنية حينا ثالثا، فيدخلون في دوامات العلاقات غير البريئة (فسادا وإفسادا)، إلى درجة أن الأسر والعوائل التي بات أمنها الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي مهددا بالقات، أصبحت تخشى أن يناقش أولئك الممثلون إشكالية القات في حضرموت، فيصدر عنهم تسويغ برلماني أو محلي أو رسمي أو اكاديمي أو تربوي أو ثقافي أو ديني، يجعل الأمر ضغثا على إبالة!

كتب الزبيري -قبل نصف قرن، قبل الثورة- مقالة في مجلة (العربي) الكويتية عن القات، فوصفه بـ (الحاكم الأول لليمن)، ويومئذ لم يكن للقات سلطة غاشمة كالتي هي له اليوم في الألفية الثالثة، إذ اتسع نفوذه (الفاحش) باتساع الخارطة الجغرافية، وأصبح أشبه بثابت من الثوابت (الوطنية) أو هدفا من أهداف الثورة، التي لا يتناطح فيها (مولعيان) من موالعة هذا الزمان!

وكتب عبدالله باذيب في صحافة عدن أيام الاحتلال البريطاني عن القات، ومن ذلك مقالته المعنونة بـ (القات لا تحاربوه) التي أكد فيها أن من مصلحة المحتل أن يظل الشعب مخدرا، في عمى عن قضاياه ومصالحه الوطنية.

وكتب د. عبدالله باحاج كتاب (القات في حضرموت بين الفرض والرفض، دراسات عن القات وخطورته على التنمية المحلية والوطنية)، وكتب كثيرون في السياق نفسه كثيرا من الآراء والمواقف الجادة.

لكن المرء يتساءل اليوم: إن كان من مصلحة الإمام الكهنوتي أن يظل شعبه في غيبوبة، وإن كان من مصلحة المحتل الأجنبي أن يظل الشعب مخدرا، لا يعي قضاياه ولا يدرك ما يجري من حوله ويحاك له، فما وجه المصلحة في العهد الجديد، عهد الديمقراطية والشفافية والتنمية المستدامة؟!

ويتساءل آخرون : إن كانت حضرموت ترفد الوطن بما لا يقل عن 70% من الموازنة العامة، فهل (كارثة القات) هي الرافد الذي يقدمه الوطن لحضرموت (المنزوعة القات)- برحمة من الرحمن الرحيم- فتدفع حضرموت الثمن مرتين: مرة بسيادية النفط الوطنية مع ندرة المستفيدين من أبنائها من التوظيف والتأهيل في المجال النفطي -وهي المحافظة النفطية الأولى- ومرة أخرى بما ترفد به جيوب وشوالات وأرصدة منتجي القات ومورديه من ملايين يوميا، وهم جميعا لا يأتون من خارج الحدود طبعا حتى يضبطكم خفر السواحل والمنافذ والبراري، ولكنهم مواطنون يمنيون ينشرون بتجارتهم الطفيلية- آفة اجتماعية واقتصادية وصحية وأخلاقية ودينية وثقافية في حضرموت جهارا نهارا، وتحت مظلة الإباحة الوطنية والصمت الرهيب، (ويتظاهرون أيضا!!).

أية مفارقة هذه التي أفاقت على نشازها مدينة المكلا؟..وما المفارقات القادمة؟ ثم ماذا لو خرجت تظاهرة (للقوت) بدلا من (القات)؟

علق أحد كبار السن بعد أن نفض عمامته متبرما من تظاهرة المقاوتة:(سكتنا له، دخل بحماره !!)، مشيرا إلى أن صمتنا عن كارثة القات برر لأولئك أن يتظاهروا ضدنا وضد مستقبل أحفادنا، وأين؟! في قلب المكلا!.. الله أكبر!

متى تفيقون أيها السادرون؟ ومتى نسمي الأشياء بأسمائها فيصبح القات كالأفيون، فنثور عليه كما ثار شعب حي استحق الحياة بجدارة في بلاد اسمها (الصين)؟.. إنما :

لقد أسمعت لو ناديت حيا

ولكن لا حياة لمن تنادي

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى