الكون في قوقعة

> ريم عبدالغني:

>
ريم عبدالغني
ريم عبدالغني
كان حلماً جميلاً، لم أفكر أن يتحقق يوماً.. و لم يزد عدد من قرأت لهم كتاباتي عن أصابع اليدين، لم يخطر لي قط أنني سأكتب ما يقرأه الكثير من الناس.. كان الأمر بعيداً عن تفكيري.. و ربما كان مختبئاً في أعماق رغباتي الدفينة ، فالكتابة كانت ملاذاً ألجأ إليه لأفرغ -دون خوف أو خجل- طوفانات مشاعري المتدفقة .

و في تنقلي طلباً للعلم أو الاستقرار.. كان أهم ما أحزمه في حقائبي.. ملف أوراقي الشخصية وخواطري التي أنثرها على أوراق متنوعة.. بعضها صغير وبعضها كبير .. بعضها أبيض وبعضها ملون.. وقد تجد بعضها مكتوباً خلف أوراق محاضرة جامعية أو حتى على تذكرة سفر.. أي مدى رحب استوعب أحاسيسي..بحنو وصمت.. في مكان ما وزمان ما.

جنّبني حب الكتابة خيبات الأمل التي تصيب من لا يحالفهم الحظ في اختيار أصدقاء موثوقين ،إذ طالما كانت موضع سري وجليستي المفضلة، احتفظت بكل كتاباتي ، حتى تلك التي ولدت من هنيهات الغباء أو الهذيان.. لأنها كلها بعضي .. في لحظات الضعف و القوة .. والتجلي والغيبوبة.. تزداد متعتي و أنا "أقرأني" بعد زمن ، تضحكني وتبكيني صور مراحل مختلفة من حياتي و حياة أصدقاء أحباء.. بعضهم لم يعد ممكناً أن أراه إلا بين هذه الكلمات.

وللأسف، ضاقت مساحة الكتابة مع اتساع مشاغل الحياة وتسارع إيقاعها ، و لكنني كنت أكتب بين الفينة والفينة كي أتوازن، كنت أشعر بغربة حقيقية حين أتوه عن دفاتري ولا يعيدني إلى ذاتي إلا ورقة وقلم .

و لأني أسكب روحي فيها، بقيت دفاتري عالمي الحميم الذي لا يدخله أحد دون استئذان،.لم أحتج قط في صغري أن أخبئها في درج أو تحت وسادة ، و حتى اليوم يحترم الجميع خصوصيتها ،مع أني أحملها معي في كل مكان ، و قد تجدها على طاولة الطعام أو فوق مقعد السيارة أو تتعثر بها قرب السرير.

سنحت لي الفرصة مرات عدة لنشر ما أكتب ، لكنني لم أستسغ فكرة عرض ما في داخلي أمام من أجهل ، ما الذي نضج أو تغير قبل أشهر؟.. لست أدري.. راقت لي الفكرة فجأة .. خطوت إليها على وجل.. خلتها تجربة عابرة ..أخوضها حيناً.. فأغلق باب الندم على ما لم أعرف، لكن التجربة - على غير توقعاتي -استمرت.. بدأت أستمتع بها حقاً ولعل أكثر ما شجعني الرسائل التي تلقيتها تعليقاً على مقالاتي من أنحاء عالم حوله البريد الإلكتروني قرية صغيرة..فاجأني أن أجد صدىً حقيقياً لمشاعري ممن لم ألتق بهم أبداً ولا يعرفون عني شيئا، لكنهم قرأوا أصدق ما فيّ ..كما هو... بلا تزييف أو مقدمات ..في تواصل صادق للقلوب.

أليس من يقرأ أعماقك و يستشعر موجاتك.. يسبح في ذات عالمك؟ أليس قادراً على أن «يسمعك» و«يراك» حتى لو لم يسمعك أو يرك قط..؟ و قد نعيش عمراً مع من اعتقدوا أنهم سبروا أغوارنا و عرفونا حتى النخاع ، ولكننا عجزنا عن أن نوصل لهم آهة حقيقة واحدة.. لأنهم لا «يسمعون» تردداتنا الخاصة.

أفرحتني رسائلهم .... لم أعد أكتب على استحياء ..انطلقت أصهل بحرية حصان في البراري الواسعة .. تضيق غربتي كل يوم ويزداد تفاؤلي ، فأتحدى إيقاع أيامي المرهق وأختلق واحة بين زحام الأوقات لأكتب .. أتنفس من مسام الكلمات .. ،تشترك حواسي كلها بصياغتها ، أعيش في كل مقال تجربة رائعة .. تصهر معاناتها مساحات اليباس في داخلي، تجتمع حروفها ندىً يبث الاخضرار في آفاق طالما أخافتني وحشتها وغموضها، فأحتويها كلها بين ذراعي.

اتسع عالمي و ازدادت ألوانه بريقا و بهاء ..وجدت في الكتابة بلسماً لكثير من الهموم والآلام ، ألم يودعها الأديب الكبير جمال الغيطاني حزنه و افتقاده بعد رحيل أبيه ، فداواه مدادها السحري الذي انساب راسماً كتابه الجميل «تجليات».. ؟

حاولت في سلسلة «أوراق من ذاكرة اليمن السعيد» التعبير عن محبتي وإعجابي بالبلد الذي زرته مرات و مرات ، ودرست سنوات طويلة في مدرسة عمارته المبدعة ، واجهتني صعوبة انتقاء المعلومات من بحرها الهائل ، ثم تنسيقها بسلاسة في باقة تفيد القارئ وتمتعه، وربما كان الصدق الذي كتبت به تلك السطور هو ما أوصلها إلى قلوب من راسلوني معتبرين أن إلقاء الضوء على بعض جوانب الحضارة اليمنية الرائعة إنصاف لهذا البلد العريق و ملايين شعبه الطيب .

فمن كل مكان في اليمن أتتني رسائلهم ، هداهد تحمل سلال قش يمني ملأى بفل لحجي وبن يافعي و بلس تعزي و عنب صنعاني وبخور عدني ولبان مهري وعسل حضرمي ، استفدت من ملاحظاتهم و حفزني تشجيعهم على مواصلة الكتابة، أفرحني أن يخبرني البعض أنهم ينتظرون ما أكتب ، و رأيت وساماً فيما كتبه الدكتوران المهندسان الحضرميان عقيل و منصور بن ثابت من ماليزيا حين سمياني «بالطير الحضرمي المهاجر»، في حين دعاني السيد زهدي عوض من شبام «ابنة حضرموت» ، و في إحدى ألطف الرسائل كتبت لي السيدة أمل النعيمي من الشارقة «روحك تلتصق بالصور كأنك تدسين الحياة بين مبانيها وحول أسوار بيوتها ومن شفاه شعبها»، بينما كتب لي السيد أحمد الهيال من عدن يقول:«دخلت قلوب أهل حضرموت الواسعة حين وصفت أزقتها الضيقة»، وآمل أن كتاباتي تستحق فعلاً ما كتبه السيد عبد الحكيم العوذلي من عدن - «درة العالم» كما سمّاها في رسالته- الذي قال: «تنقّل رقيق بين الجمل والمعاني غير المعقده، يطير بالقارئ إلى مسرح الواقع و لقطة الموقف كأنه رأي العين»، و تأثرت للغاية بالهدية الثمينة التي قدمها لي الصحفي محمد سالم قطن من الشحر حين كتب «أريد ان أهديك بعضاً من تراب مدينة شبام أو الشحر أو المكلا أو الهجرين عربوناً لمزيد من التواصل مع التاريخ الحضرمي ، لكن البريد يأبى ذلك خصوصاً وقد أضحى في زمننا هذا الكترونياً جداً» .

أود أن أشكركم من كل قلبي، فرسائلكم ومضات سحرية تحيل قوقعتي كوناً واسعاً أحلق فيه كما أشاء.

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى