«مهزلة» يحلم بها كل عربي!

> فهمي هويدي:

>
فهمي هويدي
فهمي هويدي
لم نعتد في العالم العربي المعاصر أن نشهد انتخابات رئاسية لا نعرف نتيجتها مسبقا، وإذا تعدد المرشحون المنافسون للرئيس في أي فيلم ديمقراطي، فلا يخطر على بالنا ان يخسر السباق الرئيس القابض على السلطة، أما الذي لا يكاد يصدق، ونعتبره من عجائب الزمان، أن يستولي أحد العسكر على السلطة، ثم يتنازل عنها طواعية لصالح رئيس مدني ينتخبه الشعب، وهى «العجيبة» التي تكررت مرتين فقط في تاريخنا المعاصر، مرة حين انقلب الفريق سوار الذهب على نظام الرئيس السوداني جعفر نميري سنة 1985، ثم سلم السلطة للمدنيين، ومرة ثانية حين أطاح العقيد علي ولد محمد فال الرئيس الموريتاني ولد الطايع سنة 2005، ووعد بالانسحاب من السياسة ومن الجيش بعد الانتخابات الرئاسية التي جرت هذا الأسبوع، ولم يشارك فيها.

ولكي أكون صريحا، فإنني أقر وأعترف بأنني لست واثقا تماما من وفاء العقيد ولد محمد فال بوعده إلا إذا أعلنت النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية في نواكشوط، ورأيت بعيني الرجل وهو يسلم السلطة إلى الرئيس الجديد، ثم تأكدت من أنه حل المجلس العسكري الذي يرأسه، وعاد إلى بيته بعد ذلك. صحيح أن الخطط التي اتخذت حتى الآن ماضية في ذلك المسار، إلا أن خبراتنا الطويلة مع الحكام الذين يعجزون عن مقاومة إغراء السلطة في اللحظة الأخيرة، تدعونا إلى التريث والحذر، إذ من يدري، فلربما رجع الرجل في آخر دقيقة وقرر استعادة سلطته وصلاحياته، «استجابة لرغبة الجماهير»، وحرصها على ضمان استمرار مسيرة التنمية والرخاء التي بدأها.. الخ.

هذا الشك ليس نابعا من فراغ، لأننا تعلمنا، منذ دخلنا عصر الانقلابات العسكرية أن كل رئيس يتسلم السلطة يعلن في البداية زهده فيها، وشكواه من ثقل مسئولياتها التي تحرمه من الاستمتاع بحياته العائلية وممارسة أنشطته الإنسانية العادية، لكنه بمرور الوقت يستعذب المنصب ويزداد تشبثه بالكرسي، ولا يعدم بطانة تشجعه على ذلك، بدافع الحرص على ما تتمتع به من ميزات ووجاهات، كما تلح على مسامعه قائلة ان ثمة مصالح عليا للبلد تفرض عليه أن يبقى، وانه لكونه ضحى بحياته على أن يغير الوضع الذي انقلب عليه، فأهون من ذلك أن يضحي براحته من أجل إسعاد الملايين، التي بدونه ستشعر باليتم، وستعاني الإحباط والكآبة.. إلى آخر المعزوفة التي حفظنا مضمونها ومفرداتها.

الشارع العربي في اكثر من قطر مر بهذه التجربة، وعايش أحداث «الفيلم» الذي كان مضمونه واحدا، ونهايته واحدة، ولكن ما اختلف فيه هو الإخراج فقط، ولأن المسألة معهودة ومحفوظة، فلن أستعيد التفاصيل التي بات يعرفها الجميع، ولم تعد تقنع أحدا أو تنطلي عليه.

هذا الاحتيال واحتكار السلطة أصبحا من سمات دول العالم الثالث، لكن الأمر لم يخل من استثناءات في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وما جرى في السنغال وموريتانيا خلال الأسبوعين الأخيرين من نماذج تلك الاستثناءات التي تذكرنا بأن عالمنا سيئ الحظ لا تزال فيه ومضة أمل، غير أن الملاحظة المهمة في هذا الصدد ان ذلك الاستثناء لم يعرفه المشرق العربي حتى الآن، حيث لم نر في نصف القرن الأخير أية انتخابات رئاسية حرة، نعم عرفنا صورا مختلفة من الانتخابات التشريعية والبلدية التي اتسمت بدرجات متفاوتة من النزاهة، الأمر الذي سمح لشرائح المجتمع المختلفة بأن تمثل في تلك المواقع، إلا أن المشاركة لم تتجاوز تلك الحدود، وبالتالي فإننا لم نعرف تداولا للسلطة في الجمهوريات التي تعاقبت في مشرقنا العربي طيلة تلك الفترة، (موريتانيا استثناء في المغرب)، إذ ظل انتقال السلطة يتم بإحدى طريقتين التوريث أو التدليس، والطريقة الأولى معروفة ولا تحتاج إلى شرح، أما الثانية فهي تتمثل في الانتخابات الوهمية التي تجرى، لكي تأتي بنفس الأشخاص أو سلالتهم، بحيث تظل الطبقة الحاكمة كما هي، وتظل البطانة في مواقعها من دون أدنى تغيير، وهو ما يتم بالقانون أحيانا وبالتزوير والقوة في أحيان أخرى كثيرة، الأمر الذي حول القيادة في تلك الأقطار إلى قدر مكتوب ومرسوم، لا شأن لاختيار الناس فيه.

لماذا لم يحدث ذلك الاستثناء في مشرقنا العربي؟

يستحق السؤال أن يكون موضوع بحث من جانب المتخصصين، لكني استبعد ابتداء ذلك التفسير الساذج الذي يروج له بعض المستشرقين، ممن روجوا لمقولة «الاستبداد الشرقي»، ضمن قائمة النقائص التي عددوها في مجتمعاتنا، حين لم يروا فيها خيرا أو فضيلة، فليس صحيحا أن الاستبداد يمثل عنوانا دائما لتاريخ أمتنا، وإلا لما صنعت حضارتها التي شهد بها المنصفون، ولم ينكرها سوى الكارهين والجاحدين، ناهيك أن تراثنا الثقافي ـ مرجعيتنا الدينية بوجه أخص ـ تفرد بتحريض الناس على مواجهة الظلم والاستبداد بكل صوره، وانذر الذين ينصاعون للظلم ويستسلمون بعذاب الله في الآخرة، حتى عرفت بعض مدارسنا الفقهية ما سمي بفقه «الخروج» على الحكام الظلمة. في الوقت ذاته، فإن أقطارا مثل مصر وسوريا ولبنان مرت بمراحل تمتعت خلالها الشعوب بقدر معتبر من الحرية السياسية، تشكل استثناء واختراقا لوصمة الاستبداد المخيمة.

وإذ ما زلت عند رأيي في أن الأمر يحتاج إلى مناقشة موسعة، فإنه إذا جاز لي أن أدلي بدلوي في الموضوع، فإنني أزعم أن عاملين مهمين أسهما بدور أساسي في صناعة الوضع السياسي المحزن الذي وصلنا إليه، الأول هو الانقلابات العسكرية التي أضعفت مجتمعاتنا بشكل فادح، الأمر الذي أدى إلى إماتة خلايا العافية فيها، وأفقدتها حالة الممانعة للاستبداد، فقد صادرت تلك الانقلابات الأحزاب السياسية، ووظفت السلطتين التشريعية والتنفيذية لحسابها، وأممت النشاط الاقتصادي وألغت دور النقابات المهنية والعمالية. وإذا أضفنا الى ذلك التطور الحاصل في قوة الدولة وآليات جبروتها، فإننا سنخلص إلى أن المجتمعات التي أخضعت لحكم العسكر جرى اقصاؤها سياسيا، الأمر الذي جعلها تستسلم للخضوع وتعجز عن أي مقاومة بمضي الوقت، ومن ثم، فإن التعافي من تلك الحالة أصبح يحتاج إلى علاج يستغرق وقتا طويلا.

السبب الثاني أن منطقة المشرق العربي بالتحديد صارت مسرحا لعاملين يمثلان مصلحة جوهرية لقوى الهيمنة في العالم؛ وعلى رأسها الولايات المتحدة. العامل الأول هو النفط، الذي لا يزال عصب الصناعة في الغرب، وبغيره تشل الحياة وينهار صرح النهضة الصناعية الهائل في أقطاره، أما العامل الثاني فهو إسرائيل، التي استخدمت نفوذها في ربط مصير الغرب في المنطقة بمصيرها.

بسبب هذين العاملين، النفط وإسرائيل، فإن الدول الغربية؛ وعلى رأسها الولايات المتحدة توافقت على أن يظل المشرق منطقة نفوذ، يتعين الحفاظ على خرائطها السياسية ثابتة كما هي، طالما أنها لا تخل بمصالحها، الأمر الذي يعني أن أي تغير فيها يظل مرهونا بمدى استجابته لتلك المصالح، وبطبيعة الحال فإن التغيير المفترض، إذا كان يشتم منه أي تهديد للمصالح المفترضة، يجب أن يتم اقصاؤه وقمعه بكل قوة وبلا هوادة.

لأن الأمر كذلك، فإن الكلام عن الديموقراطية يجب من وجهة نظرهم أن يستقبل بحذر شديد، ويرحب به في حالة واحدة، هي أن تسفر الديمقراطية المرجوة عن الحفاظ على المصالح الغربية كما هي، وفي تجربة الانتخابات الفلسطينية شاهد يعزز ما تقول، فتلك «ديمقراطية خطأ»، لأنها أتت بأناس يتحدثون عن المقاومة لاستخلاص الحق ويرفضون الاعتراف بإسرائيل. ولذلك استحقت العقاب والحصار والتجويع، إلى أن تمتثل في النهاية وتخضع للإرادة الإسرائيلية والغربية، المتمثلة في قرارات الرباعية.

إذا عدنا إلى مشهد الانتخابات الموريتانية الذي دفعنا إلى ذلك الاستطراد، سوف يستوقفنا موقف الزعيم الليبي معمر القذافي منها، وموقف الرأي العام العربي الذي عبرت عنه التعليقات التي حفلت بها مواقع الانترنت.

فالأخ العقيد وصف الانتخابات الموريتانية بأنها «مهزلة»، لأنها اعتمدت النظام الديمقراطي التعددي في شكله الغربي، ولم تمض على درب المؤتمرات الشعبية المطبقة في ليبيا، وربما استغرب العقيد القذافي أن يأتي عسكر إلى السلطة في موريتانيا وبعد سنة يغادرونها، ويجرون انتخابات يتنافس عليها 19 مرشحا، يصبح واحدا منهم رئيسا للبلاد، ومن وجهة نظره، فذلك استغراب في محله، لأنه باق على رأس السلطة في ليبيا منذ عام 1969، ولا يخطر على بال أحد انه يمكن أن يغادرها. من هذه الزاوية فإن الأمر يبدو مهزلة فعلا ـ إذ لا يقبل منطق أن يجهد القائد العسكري نفسه ويغامر لكي يقبض على السلطة، ثم يفرط فيها بهذه السهولة، إلا إذا لم يكن جادا فيما أقدم عليه!

أما تعليقات المواطنين العرب التي وقعت عليها من خلال مواقع الانترنت فهي حافلة بمشاعر البهجة والحسرة، البهجة إزاء الخطوة الاستثنائية التي أقدم عليها العقيد ولد محمد فال، والحسرة لأن المواطنين العرب يفتقدون إلى تكرار ذلك النموذج في بلادهم، وقد استوقفني في تلك التعليقات ما كتبه مواطن مصري في موقع الإذاعة البريطانية، حيث قال: «لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون موريتانياً»، مستخدماً في ذلك مقولة الزعيم المصري مصطفى كامل، «لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا».

مع احترامي لرأي الأخ العقيد ولتجربة المؤتمرات الشعبية، فإنني لا أتردد في القول إن المهزلة التي وقعت في موريتانيا أصبحت حلمَ كل مواطن عربي في هذا الزمن.

عن «الشرق الأوسط» 14 مارس 2007

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى