1945م من عدن إلى لحج والعواذل والبيضاء

> فاروق لقمان:

>
فاروق لقمان
فاروق لقمان
قام الوالد محمد علي لقمان المحامي رحمه الله برحلة فيما كانت تسمى بالمحميات عام 1945م، أي قبل حوالي اثنين وستين عاما سجلها في كتاب صغير المقاس ليتمكن من طباعته على آلة متواضعة كان يستخدمها لبطاقات الأعراس والكتيبات، تعمل بالكهرباء وباليد أيضا، أي بأن يضع العامل ورقة في لحظة معينة قبل أن تكبس اللوحة المعدنية بالكهرباء عليها ثم ينتزعها بلطف وسرعة خاطفة ويضعها واحدة فوق الأخرى وهكذا دواليك. والفرق بين أجهزة الكمبيوتر لجمع الحروف وآلات الطباعة في دار «الأيام» الحالية وتلك (المطبعة) تساوي مائة عام تقنية.

يسمي العواذل البلاد التي تقوم على سطح الجبل (الظاهر) وتلك التي تقوم عند أسفله (الباطن)، لذلك سماه (في أرض الظاهر) حيث تقع مكيراس وعريب وغيرهما من المدن ونفد خلال أشهر لتهافت الناس في عدن والمحميات المجاورة على قراءة كتاب من أدب الرحلات يخص بلادهم ويعلم الزملاء أننا كنا في طفولتنا في مدارس السيلة والتواهي والشيخ عثمان نعرف عن الأهرام وأبو الهول أكثر مما نعرف عن الصهاريج، وعن الترامواي- قطار صغير مثل الأوتوبيس - أكثر مما نعرف عن موقع أرض الظاهر لأن كتبنا المدرسية كانت مصرية التأليف.

ولما عثرت على نسخة من (أرض الظاهر) قرأتها في ليلة واحدة واطلعت على معلومات عن سلاطينها وأرضها وزراعتها كنت أجهلها رغم أنني زرت مكيراس ذات يوم في نهاية الخمسينات في ضيافة الأمير جعبل بن حسين شقيق السلطان آنذاك صالح بن حسين بن جعبل- أطال الله عمره- وكما ترى فإن اسم جعبل شائع جدا في بلاد العواذل.

واليوم في ظل الوحدة اليمنية الشاملة وتطور المواصلات قبل ذلك بالسيارات والطائرات إذ كان هناك مطار في مكيراس المتاخمة للبيضاء، لم يعد هناك ما يثير استغراب الزائر من عدن، لذلك سأكتفي باقتباس بعض المعلومات التي جمعها الوالد من أرض الظاهر ومن سلطانها صالح بن حسين الذي كان يصغره سنا لأن الوالد كان صديقا لعم السلطان صالح (محمد بن جعبل) الذي زار عدن قبل ظهور الكتاب بعشرين عاما أي سنة 1925م، وأيضا لعلاقة نسبه بالأمير اليمني الشهير عامر بن عبدالوهاب الذي كان له تاريخ حافل في الصراعات التي جرت في البلاد، ويقال إنه الذي بنى المنارة المشرفة على دار «الأيام» الغراء والاستاد الرياضي بكريتر.

يقول الوالد في كتابه: «فقد دخل صنعاء وغزا وصاب ورداع ويافع ووصل في غزوه إلى دثينة عام 908هـ وحاصر حصن الحافة الواقع على بعد ميلين شرق لودر، كما جاء في رسالة (سعادة العواذل) أنه كان معاصرا للسيد أبي بكر بن عبدالله العيدروس الذي مدحه بقصيدة عصماء.

وذكر لي السيد محمد بن عقيل رحمه الله أن الأمير عامر دخل عدن وبنى فيها الصهريج المعروف بصهريج الفارسي، وقد شاهدت في رباك شمال الحسوة بقايا مسجد معروف باسم مسجد الأمير عامر عبدالوهاب لم يبق منه سوى المحراب.

تزوج الأمير عامر عبدالوهاب في دثينة وكان نسله سلطان العواذل صالح بن حسين بن جعبل بن قاسم بن علي بن قاسم بن أحمد بن حسين بن هيثم بن ديان بن منصور ابن طهيف بن منصور بن عامر بن عبدالوهاب.

ودثينة لا تبعد عن لودر إلا ساعات للراكب المجد، ولا يفصل بين البلدين جبل، وتقعان بين الواديين شوحط وثرة المنحدرين من جبل ثرة، وتمتد دثينة من أسفل الجبال في نهاية هذه الأرض وتكتنف الجبال الواقعة في شرق أرض العوذلي وتنتهي هذه الحدود عند جبل مدبب.

سألت السلطان صالح عن أصل سكان هذه البلاد فقال (إننا من عرب حمير). والملاحظ أن للقوم أنوفا رفيعة مستقيمة و رؤوسا مستديرة وقل أن تجد فيهم الطويل الفارع ويغلب على أغلبهم القصر لطبيعة البلاد الجبلية، وفي النساء عفة وشمم ومروءة نادرة، إذا قدم غريب إلى بيت في لودر أو زارة استقبله رب البيت وأفرد له مكانا يقيم فيه وأمر النساء بطهي الطعام له وتقديم القهوة من البن الممزوجة بالزنجبيل الكثير.

والناس على دين ملوكهم.. فما كاد يستقر بنا المقام حتى بعث السلطان يدعونا إلى وليمة ثرية جمعت صنوفا من العيش منه (الملوح) و(المطبق) واللحم الكثير والمرق والسلطة الحديثة المحضرة من الكابيج والليتس والطماطم والفجل والفواكه المحفوظة في علب، وقد كان السلطان على رأس المائدة وإلى جانبه المستر ديفي.

أراني السلطان قطعا من نقود ذهبية قديمة عثر عليها بعض أهل قرية العنب، ولجهلي بعلم الآثار لم أتمكن تماما من معرفة تاريخ هذه النقود إلا أنني أعتقد أنها تنطبق على زمن الأمير عامر عبدالوهاب، وقد وجدت في التراب، والتراب هو صندوق البدوي، فقد راقبت عددا من الجمالة والرعاة يتسلمون أجر جمالهم وأرباحهم وأثمان محصولاتهم ويدفنونها في التراب أو تحت قائمة سرير أو في فجوة عند جدار قائم في البيت أو بين أخشاب السقف، وعثرت مرة على 20 ريالا فضة في سقف بيت في لحج وعرفت أن ذلك كان مخبأ لعامل أبي زوجتي عوض مغلس رحمه الله قبل 30 سنة».

ولما كانت البيضاء لا تبعد سوى 12 ميلا أو حوالي عشرين كيلومترا يقطعها المسافر آنئذ في أربع ساعات، وإذا ركب حمارا قويا ففي ساعتين، استأذن الوالد من سلطانها حسين بن أحمد الرصاصي في زيارتها وأشار إليها في كتابه «بأنها تقع في سفح هضبة عالية تحيط بها هضاب وتلال وهي باردة ومدينة مهمة ومحاطة بحقول زراعية تعتمد على الآبار والأمطار في ريها، من حاصلاتها الذرة والبر والشعير والخوخ البيضاني والعنب والرمان والتين والحبحب والموز». ثم تحدث عن بعض رجالها فقال: «أهم رجالها وسادتها الشيخ حسين بن علي الرماح وولده النبيل الشيخ سالم بن حسين الرماح. ويعد حسين شيخ مشايخ أهل الشرق من بيضاني ورصاصي وحميقاني وعزاني ودباني وعمري. وسكان مدينة البيضاء ثلاثة ألف لكن سكان قضاء البيضاء يبلغون خمسين ألفا. ومن رجال الأدب والعلم فيها المشايخ أحمد موسى المرزوقي وسالم أحمد سبا ومحسن صبيح وأحمد علي العبد وعبدالله عمر ومحسن الهدار، ومن أهم تجارها المشايخ سالم الرماح وعلوي قاسم القربي وصالح العاقل وعمر أحمد الشيبة وصالح النقيب».

ضم الكتاب كلمة قيمة للسلطان عبدالكريم فضل بن علي العبدلي كتبها عام 1945م أو قبل ذلك وسمح بنشرها في «فتاة الجزيرة» العدد 289 قال عنها المؤلف إنها تدل على مبلغ اهتمام رجال المحميات بمستقبل بلادهم. والسلطان عبدالكريم كان من أبرز سلاطين العبادل وهو الذي أمر ببناء قصر البراق المواجه لبحر الرزميت في كريتر ولعله أجمل بناية سكنية عرفتها عدن حتى اليوم.

جاء في كلمته: «البلاد العربية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم خطا عدة خطوات إلى التقدم، وقسم اختمرت في رؤوسهم الفكرة ويتابعون أخوانهم السابقين ويقلدونهم قدر الإمكان، وقسم مازالوا على حالتهم القديمة ولديهم فكرة مضطربة عن النهوض ويحتاجون إلى من يساعدهم على تركيز أفكارهم وإرشادهم إلى السبيل، على أنه لم يبق في الجزيرة العربية من لم يستيقظ من غفوته ومن لا يود التخلص من حالة التأخر التي هو فيها.

ولكي نرفع المستوى الأدبي والثقافي والسياسي لا بد لنا من توحيد الأنظمة والقوانين لكي تتقارب الأفكار ووجهات النظر. ولا نعني بهذا أن نجعل المتقدم والمتأخر في مستوى واحد دفعة واحدة، بل إن ما نعنيه هو أن تكون المبادئ الأساسية واحدة والهدف واحد، وهم يمشون إلى هذا الهدف كالقافلة واحدا بعد الآخر حسب الأسبقية والدرجات حتى يصلوا إلى الغاية التي يرومونها والمستوى الذي تطمئن إليه نفوسهم. ولا شك أنكم تدركون تأثير اختلاف الثقافات والأنظمة على النفوس وتكوين الآراء وتركيز الأفكار وتوحيد الغايات ووحدة الشعور كأمم لها أصل واحد ولغة واحدة وطبيعة واحدة. وإذا أنكرنا هذا أصبحنا كمن يغالط نفسه بل ستضطرنا إليه الظروف وتدفعنا إليه الحاجة. والأمم العربية تحتاج في هذا إلى آراء المفكرين من رجالها والمساعدة الخارجية، خصوصا وقد أصبح العالم الآن وحدة واحدة لسهولة المواصلات وسرعتها واحتياج كل أمة إلى الأخرى لكي تستوفي حاجاتها الناقصة بتبادل السلع والخامات والمنافع الاقتصادية والسياسية. ولقد أثبتت الحرب هذه الحاجة وأظهرت ضرورتها مما جعل الأمم المتحدة تنادي بذلك وتعقد له المؤتمرات والاجتماعات». كلمات عمرها حوالي 62 عاما.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى