فساد في المعيار.. أم فساد في النزعة؟

> صالح علي محمد العطاس:

> لقد عقد مؤخراً في الكويت مؤتمر عن الفساد الإداري من منظور اقتصادي، وذكرت منظمة الشفافية الدولية على لسان رئيسها في هذا المؤتمر أن «حجم الخسائر التي تلحق بالاقتصاد العالمي نتيجة انتشار ظاهرة الفساد بأشكالها المختلفة يقدر بأكثر من 400 مليار دولار سنوياً».

وأوضح رئيس المنظمة أن ظاهرة الفساد أصبحت من المظاهر الرئيسية التي تهدد جميع أشكال التطور التي يشهدها الاقتصاد العالمي، وتؤثر سلباً في مسيرة الدول الاقتصادية وسعيها نحو تحقيق أعلى معدلات النمو، مشيراً إلى أن الفساد في العديد من دول العالم ينطلق أحياناً من ضعف السلطة السياسية أو نتيجة إغفال تطبيق القوانين.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن المؤتمر تعرض وبصورة خاصة إلى الفساد في الدول النفطية، مشيراً إلى أن هذه الدول - وبصورة أدق تلك التي تعتمد على ثرواتها الطبيعية - تحتاج إلى بناء معايير خاصة بالشفافية.

ونحن هنا لا نود الدخول في أي تفاصيل من النوع الذي يبحث عن حجم الفساد أو دوره أو غير ذلك، ولكن سنحاول أن نبحث عن إجابة للسؤال: هل الفساد السائد هو فساد في المعيار.. أم فساد في النزعة؟

كما أننا أيضاً قبل الإجابة عنه علينا أن نجيب عن ماذا نعني بالمعيار في مفهومه الدلالي اليسير، فالمعيار وكما هو معروف نوع من الوسائل التي تعيننا على فهم ومعرفة «أن وجود مقدمات معينة وبخصائص معينة إذا وظفت توظيفا معينا وفي مجال معين وبأسس معينة ستؤدي إلى نتائج معينة» ومن خلال فهمنا لمنطق المعايير من الممكن أن نوازن بين الأهداف التي نتوخاها من زاوية معينة وتخطيط معين.. أو غير ذلك والنتائج المنتظرة من تلك الأهداف، ولنا أن نتوقف قليلاً هنا كي نوضح العلاقة بين المعيار والقانون حتى لا يحدث اللبس بينهما هنا.

العلاقة بين المعيار والقانون
إن القانون في الدولة الحديثة لا يختلف في جوهره عن القانون في الماضي، فالقانون هو نوع من المعايير تقاس على أساسه التصرفات، وهو تحديد للآخر الذي تتم بداخله علاقات الأفراد في علاقاتهم الخاصة، وضمان لإنفاذ الإرادة ما لم تصدم بنص معياري أو قانوني يخالفها، وكذلك بالنسبة للمعايير الأخلاقية أو الاجتماعية.. أو غير ذلك وحتى نبتعد عن متاهات التعاريف سنعطي مثالاً عملياً مباشراً عن المعيار، فمثلاً إذا وضعت الماء على النار فإنه يصل إلى الغليان عند درجة مائة، وإذا تركت جسماً في الفضاء سقط على الأرض وفق معيار الجاذبية.. وهكذا ولكن ليس هذا المعنى ما نقصده، فقصدنا بالضبط هنا هو المعيار الذي ينظم به الأفراد والناس علاقاتهم في المجتمع إما بطريقة نمائية استثمارية جيدة تخدم الكل أفرادا وجماعات، أسرًا ومنظمات، هيئات ومؤسسات...إلخ أو بطريقة اغترابية يتوه فيها الجميع عن استراتيجية الهدف التنموي الاجتماعي الجوهري، أي أننا سنركز على بعض جوانب ثقافة المجتمع وبنحو خاص تلك التي تحدد قواعد سلوكه وتبين له الإجابة عن سؤالنا المطروح سلفاً ومن خلال ما يأتي:

أولاً: العلاقة بين السائل والمجيب
لو حاولنا الوقوف لاستبصار هذه العلاقة سنجد أنه عندما يرتفع صوت من الأصوات مطالباً بحق من الحقوق وإن كان في أضيق الحدود الحقوقية وفي أدنى مستوياتها كأن يكون الحق، مطالبة بعلاوة أو تظلماً في تسوية أو أي حق آخر تنص عليه الأنظمة واللوائح، ترتفع مباشرة أصوات مقابلا له لإسكاته بمنطقها النزوعي الغريب وتجيبه مباشرة: يا أخي، اصمت فإن حصولك على شيء خير من لا شيء وإن كان هذا الشيء لا يصل بمقداره إلى حجم أيسر الحقوق ولا يتناسب مع أيسر معايير الاستحقاق وفق منطقها العام.. وبما أن هذه هي الرؤية السائدة وكأنها رؤية لها خلفية إيمانية فإن الأمر يعني في النهاية شيئا خارجا عن منطق المعايير أو القوانين بل وحتى العلاقات اليومية، وفي الأخير ترى هذه الجماعات أن لها منطق العلاقات السمحة المسالمة التي لا تريد لك الدخول في متاهات الاستفسارات والمتابعة، بل والخوض في ما لا طائل فيه، وهذا يعني من وجهة نظر أخرى، أن المعيار والقانون غير مرفوضين ولكن ليس للمجتمع ومؤسساته حق الرقابة والتدقيق والمحاسبة بموجبه أو حتى فهمه، بل لأولئك الأفراد الذين تصل إليهم القوانين ومذكراتها التفسيرية التي تحتاج في فهمها إلى عبقريات غير مسبوقة لا يمكن لغيرهم الوصول إلى فهم آلياتها وتطبيقاتها.

هذه الصورة الأولى من علاقاتنا الاجتماعية وسنحاول الوقوف مع الصور الأخرى حتى تستكمل أجزاء ما تبقى من لوحة علاقاتنا الاجتماعية.

ثانياً: علاقاتنا ببعض
أحدد المنطلق هنا من حقيقة جوهرية أن الفرد والعلاقات التي ينشئها هي حصيلة ظروف موضوعية لا حصيلة أفكار ورغبات أو مثل عليا، أي أن الواقع الاجتماعي لا الفكر المجرد هو الذي يقرر في النهاية تركيب المجتمع وطبائع أفراده. فالفرد في تركيبة النفس وفي السلوك الاجتماعي الذي يصدر عن هذا التركيب، يبدو فريسة اتجاهين متناقضين، فهو من جهة مدفوع بنزعة فردية عمياء تجعله عاجزاً عن العيش دون الالتصاق بالجماعة والاعتماد الكلي عليها. فالنزعة الفردية في مجتمعنا تتميز بطابع سلبي محض بحيث أنها تهدف إلى خير الفرد وحده ولا تقيم للكيان الاجتماعي أي اعتبار.

وإذا صح قول علماء الاجتماع في أن سلوك الأفراد في مجتمع ما يظهر على حقيقته في أدب قيادة السيارة، فإن أدب السير عندنا يؤكد بدقة النزعة الأنانية في سلوكنا الاجتماعي، والجدير بالذكر أن اللطف والمسايرة اللذين يميزان سلوكنا الاجتماعي عندما نلتقي وجهاً لوجه هما وسيلة لإخفاء النزعة العدوانية اللا شعورية التي تكمن في كل منا اتجاه الآخر.

وهناك صفات كثيرة أخرى ترتبط بالنزعة الفردية لا سبيل لذكرها لعدم سعة المجال، بيد أني سأركز على أهمها والتي منها:

نجاح أخي يعني فشلي:

إن العلاقات الاجتماعية ما هي في النهاية إلا إنعكاس للعلاقات العائلية والعكس بالعكس. وما السلوك الاجتماعي إلا تعبير عن الشخصية الاجتماعية المنبثقة من الارتباط الوثيق بين العائلة والمجتمع.

وخلافاً لما يظنه الكثيرون، فإن نظام العائلة عندنا على ما فيه من بعض الحميات التي تتمثل في بعض روابط الحماية والتزاور العائلي فيما هو واجب، يقوم على تعاليم التنابذ والخلاف والغيرة والحسد أكثر مما يقوم على تعاليم التعاون والوئام.

فناشئتنا يتعلمون منذ الصغر وبأساليب مختلفة تبدأ من أساليب اللبس والطعام.. وغير ذلك، كيف يجري اغتياب الأصدقاء والأقرباء وكيف يجهر الإنسان بما لا يضمره ومن أين تؤكل الكتف وكيف يحقق التنافس التمييزي غير التكاملي، فمن أول الأشياء التي يتعلمها الطفل في الأسرة ومن ثم المدرسة هو (نجاح أخي يعنى فشلي) وتمتد عناصر هذا التعليم بتأثيره العميق في كافة مجالات العمل.

ثالثاً: التعليم ودوره في خلق فساد النزعة
توصلت بعض الدراسات العربية إلى الاستنتاجات الآتية:

- إن ما يعتاد عليه الفرد من سلوكيات خلال سني دراسته غالباً ما يكون له امتدادات سلوكية مشابهة، أي أن اعتياد بعض الطلبة على سبيل المثال على سلوكيات الغش غالباً ما يكون لها امتدادات سلوكية مشابهة، مثل الفساد الإداري المبني أساساً على فساد النزعة.

- هناك الكثير من حالات التشابه في المنطق، وفي الآلية بين أسباب ممارسات الغش في المرحلة الدراسية من جهة وأسباب ممارسات الفساد الإداري أثناء الحياة الوظيفية حيث يدعم هذا الاستنتاج ما جاء في الاستنتاج الأول.

وفي رأيي أن دراسة ردود الفعل النابعة عن فساد النزعة باتجاهاتها المختلفة وتشعباتها الكثيرة ستزودنا بذخيرة هائلة نستطيع من خلال تحليلها المعمق أن نفهم الكثير عن طبيعة خصائص التشويه الفكري الذي تعلمته أجيالنا فنشأت على ثقافة (فساد النزعة.. ففسدت معاييرهم) لتكتمل حلقة التواطؤ النزوعي الاجتماعي والثقافي والسياسي للفساد وتدور في حركته اللولبية، مع ما يدر ذلك على أطرافها من منافع ومكاسب آنية وظرفية ومرضية، ضحيتها في الأول والأخير المواطن والدولة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى