حيث أضحك من القلب (أيّام عدنية 4)

> ريم عبدالغني:

>
نبتة برية نادرة أزهرت على شاطئ محيط واسع ... لم يسقها نهر أو تظللها واحة كغيرها من المدن التي سجلت اسمها في التاريخ.. مدينة عصامية رأسمالها مكانها ..بحرها وجبالها ..وقبل كل شيء أهلها الطيبون... تعريف منصف لمدينة عدن، التي ما زلت أكتب لكم عن أيام قضيتها فيها قبل بضعة أسابيع:

الثلاثاء 4-4-2007:

تحركت بنا السيارة باتجاه الفندق الذي يقع على ساحل جولد مور ، مشينا بمحاذاة شواطئ عدن البلّورية المنسابة .

«هذا هو خور مكسر»، أسأل:«لماذا سمّوا هذا العنق الذي يربط عدن بالبر خور مكسر؟»، كان خوراً مكسّراً صعب الاجتياز بعد أن انكسر جزء من ساحل الخليج و اندفع ماء البحر ليحوّل الأراضي المنخفضة حوله إلى أرض سبخة، وقديماً بنوا فوقه جسراً محمولاً على سبع قناطر لعبور الناس والدواب بدلاً من ركوب الصناديق والقوارب، و الآن و قد ردمت مسافات في البحر هنا ليُنشأ طريق يربط عدن والشيخ عثمان والبريقة ،و بعد أن ضاقت المساحات الحرة بهجوم البناء غير المخطط من سكن و خدمات و مرافق و المطار الدولي، فقد اختفت تدريجياً هذه القناطر كما اختفت طيور الفلامنجو الجميلة أو النخام التي ترفع رجلاً و تقف على أخرى كراقص الفلامنجو الإسباني الرشيق، و يتحدث أهل عدن القدامى عن الصورة الشاعرية التي اعتادوا أن يشاهدوها حين كانت أفواج من هذه الطيور تظهر مع انحسار البحر في الجزر ، و ليت أحد يفكر بحماية القليل الباقي منها..

في نهاية حي خور مكسر ، و بعد أن نمر بفندق عدن ، ألتقط من حقيبتي آلة التصوير لألتقط صورة لجزيرة العمال، تبدو وسط البحر أجمل من أن تكون قد استخدمت في زمن بعيد مركزاً لاستيراد و تصدير عبيد أفريقيا إلى الغرب، ولا أستوعب- ما يُقال- حول أن يعمل في تجارة القهر و المعاناة ، شاعر متوهج الأحاسيس ، كآرثر رامبو،الشاعر الفرنسي الشهير، الذي وصل إلى عدن عام 1880، وعاش فيها عشر سنوات، في كل الأحوال، المدينة الوفيّة لا تنسى أصدقاءها و لا ترى منهم إلا أفضل ما فيهم ،لذلك أطلقت اسم الشاعر رامبو على الشاطئ الجميل في حيّ التواهي، و فكّرت بجعل بيت رامبو متحفاً يحمل اسمه (وهو الآن فندق صغير).

على يسارنا و عن بعد، يبدو فوق التلة مبنى كبير، و تخبرني مرافقتي أنّه مدرسة «جبل الحديد»، التي أُغلقت في بداية الخمسينات ، وقد اعتقل فيها الزعيم المصري سعد زغلول عند إبعاده عن مصر. كما سكنها الجنرال ديجول أثناء مروره بعدن خلال الحرب العالمية الثانية .

نصل الساحة الدائرية(الجولة) التي تشرف من علوّ على حيّ المعلا ، يتمهل أبو حكيم السائق قليلا لأرى المشهد الجميل من فوق الهضبة ، و أتخيّل ما يراه الزائر أوّل قدومه براً إلى عدن..

نجتاز شارع المعلا الطويل ، يشبه أي شارع آخر مبني في النصف الثاني من القرن العشرين في أي مدينة عربية أخرى بأبنيته المتشابهة والمتلاصقة ، و يقول أبو حكيم كمن يتذكر رؤيا جميلة ، أن المباني كانت فقط في الجانب الداخلي للشارع، يوم كان شاطئه مفتوحاً على البحر لم يحتلّه العمران.

في نهاية المعلا يواجهنا حي القلوعة ، بأبنيته المتقاربة ونوافذه الصغيرة، يُثير فضولي الاسم ، حين أسمع أنّ القلّوعة تعني الشارع الملتوي بالصوماليّة، « لماذا الصوماليّة ؟» لأن أفواجًا من الصوماليين نزحوا بتجارتهم واستوطنوا هنا في نهاية القرن التاسع عشر ، حتى سمي جزء من المعلّا «صومال بورا» أو مدينة الصومال، و أطلقت الأسماء الصومالية (كالحافون وهو اسم ميناء صومالي) على هذه الأحياء التي تمددت لتشغل المُتاح من سفح الجبل.

يخرجني من هذه الأفكار صوت السائق يمدح «ليلى علوي» وهو يشاهد سيارة عالية سوداء تتجاوزنا !! عليّ هنا أن أخبركم بأن لليمنيين طريقة طريفة يطلقون بها بعض التسميات ، و يعجبني أنّهم يختارونها من دون تعقيد بشكل عفوي وقريب إلى القلب ، ففي عدن حيّ يدعى «ريمي» استوحي اسمه من فيلم رسوم متحرّكة كان يعرض حين بنائه ، وحيّ آخر يدعى «السنافر» اقتبس اسمه أيضاً من اسم فيلم كرتون يصوّر عالماً خاصاً بالسنافر وهي مخلوقات قزمة طريفة تعيش في بيوت صغيرة متقاربة ذات نوافذ ضيّقة ، وتمتد التسميات الطريفة المستوحاة من خطوط الأشكال الأساسية من الأحياء إلى أشياء كثيرة ،منها السيارات فهناك سيارة «إلهام شاهين» و«موينكا» و «ليلى علوي» ، ،وأذكر أن الفنانة الأخيرة استشاطت غضباً في مقابلة صحافية لها قبل فترة حينما سئلت عن رأيها بتسمية اليمنيين لسيارة عريضة رباعية الدفع بـ«ليلى علوي»، والطريف أنهم يستخدمون هذه الأسماء بشكل رسمي حتى في المكاتبات القانونية والعقود التجارية .

بعد القلّوعة ننعطف يساراً لنجتاز نفقاً طويلاً، تمر قربنا سيارة يطلق صاحبها العنان طويلاً لآلة التنبيه(الهون) فيها، أسأل عن هذا العرس الغريب المؤلف من سيارة واحدة و من دون عروس ، يبتسم أبو حكيم مستمتعاً بمعرفة ما لا أعرف «لا، ليس عرساً، لكن الكثيرين هنا يحبّون سماع صدى آلة التنبيه (الهون) داخل هذا النفق الطويل» ، ولأنك «إذا كنت في عدن فافعل كما يفعل العدنيون»، يضغط أبو حكيم بيده على المقود مطلقاً آلة التنبيه(الهون) في السيارة ، ولا يرفعها عنه حتى نغادر النفق..

أمّا أنا فأضحك كالأطفال، متعة أتنعّم بها في هذا البلد الذي لايزال في أهله البسطاء النقاء و العفوية.. هنا حقاً ... أضحك من قلبي ....بصدق يحرر كل مسامي... يغسل روحي..

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى