لحظة سقوط

> محمد سالم قطن:

>
محمد سالم قطن
محمد سالم قطن
السقوط العربي والهوان الذي عاشته وتعيشه أمتنا في العصور الحديثة هو النتيجة الحتمية لعشرات النكسات ومئات الدسائس ولحظات السقوط. فالأمم لا تهزم في المعارك أو خطوط النار، وإنما تعلن الهزيمة فقط في هذه الخطوط وتلك المعارك لأن الهزيمة الحقيقية تكون قد حصلت قبل ذلك، ربما بسنوات في حساب الدول وحتى بعقود وقرون في حساب الشعوب والأمم.

وفي حالة أمتنا العربية الإسلامية جاءت الكوارث متتابعة في القرنين الأخيرين. لكن لحظات السقوط كانت قد جرت قبل ذلك، ربما بقرون.

لا يخفى على الكثير من المطلعين معرفة الكم الكبير من لحظات السقوط التي تسبب فيها قادة وزعماء، مستشارون أو أهل ثقة. فمنذ ملوك الطوائف في الأندلس، وحتى البنود السرية في الاتفاقيات الدولية. ومنذ الفتنة الكبرى مروراً بابن العلقمي إلى تقسيم فلسطين، وانتهاء بمشروع الشرق الأوسط الجديد.. جرت في مياه التاريخ العربي عشرات من المجاري الآسنة غسلت فيها الخيانات نتاناتها وروائحها القذرة. قد نجد مبرراً، هنا وهناك، لبعض هذه الخيانات. وقد نقول إن تلك السقطة أو هذه النكسة قد حدثت بحسن نية ممن ارتكبها. لكن التاريخ يقول أيضاً: إن الطريق إلى جهنم مفروش بذوي النوايا الحسنة.

نحن هنا على ساحل بحر العرب والمحيط الهندي، كان هذا المحيط المتلاطم منذ بضعة قرون بحيرة عربية وكان أسلافنا وهم يديرون الملاحة في هذا المحيط يتحكمون في محور رئيس لحركة التوازن الحضاري والاقتصادي في العالم. كانت الأساطيل العربية تمخر عباب هذا البحر من عدن إلى الشحر وإلى مسقط وحتى البصرة. يمتد من هنا، وبسفن يقودها ربابنة حضارم أو عمانيون أو من القواسم، التأثير الحضاري والسياسي العربي إلى جنوب شرقي آسيا وإلى جزر الهند الشرقية عبر خليج المنارة (بين الهند وسيلان) وخليج البنغال حتى مضيف ملقا وما وراءه. في الوقت ذاته، كانت التجارة العربية وما رافقها من توسع تستدير ايضاً مع مياه هذه المحيط نحو الغرب إلى ساحل افريقيا الشرقي والجزر الكثيرة المواجهة لهذا الساحل.

وعلى حين غرة من الزمن، تنهار قلاع عظيمة شيدها العرب في دار السلام ومدغشقر وزنجبار بساحل افريقيا الشرقي. ثم تنهار قلاع في عدن وحضرموت وعمان وبندر عباس وبومباي وكاليكوت وغيرها كثير الواحدة بعد الأخرى، ويحتلها جميعاً رجال حمر الوجوه، يتكلمون لغات غريبة، عددهم قليل ولكنهم يتفوقون بمعدات دقيقة وأسلحة جديدة وبتنظيم متقن وسرعة خارقة في الإنجاز. لقد كان هؤلاء هم البرتغاليون أولى طلائع الاستعمار الغربي.

بعد سقوط ملوك الطوائف العرب في بلاد الأندلس، أخرج المارد الاندلسي امبراطوريتين بحريتين استعماريتين تقاسمتا بحار العالم بينهما. الاسبان يقودهم الملاح الايطالي (كريستوفر كولمبوس) يستكشفون العالم الجديد، والبرتغاليون يقودهم الملاح البرتغالي (فاسكو دا جاما) يستكشفون الشرق والعالم القديم، أرض البخور والبهارات واللبان.

وصل المغامر البرتغالي (داجاما) وأسطوله إلى جنوب افريقيا، وهو ذات المكان الذي أسماه العرب قبلهم (رأس الرجاء الصالح). عزز (داجاما) أسطوله بسفن جديدة وإمدادات وعتاد ورجال، وتوالت إمدادات ملوك البرتغال لتحث هذه الأساطيل المحتشدة على مواصلة الرحلة إلى بلاد البهارات. لكن الملاح المغامر يقف عاجزاً، فالمسالك صعبة وخارطة الطريق وأسرارها لا يعرفها إلا ملاحو العرب وربابنتهم. لبضعة شهور تدور الدسائس وتجري الإغراءات، وعلى شاطئ مدينة (ماليندي) بشرق افريقيا، إحدى قلاع العرب في ذلك الزمن، تجرى المفاوضات بين سماسرة أرسلهم (داجاما) سرا وملاح عربي متمكن هو الربان (أحمد بن ماجد)، تنتهي المفاوضات السرية بصفقة كارثية رهيبة، وافق فيها الاخير على أن يلعب دور حصان طروادة ليصبح المرشد للغزاة الطامعين.

تتوالى النكبات على العرب في هذه البقاع بعد أن أوصل (ابن ماجد) البرتغاليين إلى مبتغاهم في الهند. وما هي إلا سنوات قليلة معدودة حتى تحول المحيط الهندي إلى ساحة قرصنة استعمارية رهيبة. بارت فيه تجارة العرب وانتهكت موانئهم وهدمت قلاعهم، وتتوالى بعد ذلك قرون الاستعمار، بشتى ألوانه وأعلامه، في أراضيهم على شواطئ هذا المحيط الذي كان يوماً ما بحيرة عربية.

وسواء أكان (ابن ماجد) قد ارتكب تلك الحماقة في إرشاد الغزاة بحسن نية ودون مقابل، أم بسوء نية، فإن سقوط السيادة العربية على تجارة المحيط الهندي بأيدي الغرباء والمستعمرين وما تبعها من سقوط شواطئهم وبلدانهم في مخالب المستعمرين قد سبقتهما لحظة سقوط شخصية كان بطلها أو بالأحرى ضحيتها، ملاح عربي متمكن فرط في أسرار الملاحة التي اكتسبتها الحضارة العربية خلال مئات من السنين. لقد أثبت المستعرب الروسي (تيودور شوموفسكي) في موسوعته الشهيرة:(العرب والبحر) أن طريق (فاسكو دا جاما) من شرق افريقيا إلى الهند لم يكتشف بنجاح إلا بفضل البحار العربي (أحمد بن ماجد) ولقد عثر (شوموفسكي) في خزانة المخطوطات بمعهد الاستشراق في موسكو على مخطوط ابن ماجد المسمى كتاب الفوائد الذي ضمّنه تعليمات الملاحة في البحر الأحمر والمحيط الهندي، ويقول (شوموفسكي): إن هذا البحار العربي قد أعرب في خاتمة مخطوطه عن أسفه المرير، لأنه فتح للقراصنة البرتغاليين الطريق البحري إلى الهند.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى