كيف نفهم قضايا السرقات الفنية؟!

> «الأيام» رياض عوض باشراحيل:

>
رياض عوض باشراحيل
رياض عوض باشراحيل
لا يزال البعض من جمهور الفن الغنائي اليوم لا يفهمون حقيقة ما يطرح في صحافتنا من قضايا فنية ولا يدركون أهدافها، ويختلط لديهم الفهم في التمييز بين قضايا الفن المختلفة من حيث الأهمية وصواب الهدف.

وخاصة في قضايا السرقات الفنية التي يهدف طرحها إلى تنقية أجواء الفن الملوثة وخلق علاقات متكافئة في الوسط الفني ومنصفة تقوم على أساس من الصدق ويقظة الضمير لإرساء أسس لفن يبني ولا يهدم، سعياً نحو تحقيق نهوض إبداعي يشيد على أسس ذاتية وموضوعية صائبة خالية من السلبيات والكوابح التي تعيق النمو والتطور الفني المنشود. لذا نجد هؤلاء بدافع العاطفة أو العفوية يخلطون بين قضية وأخرى كأن يبرروا سلب بعض المبدعين من الشعراء أو الملحنين حقوقهم الإبداعية عندما يتعرض لها بالسطو مبدع مشهور، بينما يقفون سدوداً منيعة وأحجارا صلبة في طريق المبدع المغمور عندما يفعل نفس الفعل ويسطو على أعمال غيره فيهوون عليه بالهراوات والفؤوس الحادة ويصفونه بأقذع العبارات، وهنا يبرز الشطط والازدواجية ويظهر الخلط في معالجة القضية الفنية الواحدة. ويذهب تبرير المعترضين على كشف سطو الكبار إلى تقدير إنجازاتهم الفنية ومكانتهم العليا التي يجب ألا تمس حتى لا يتشوه تاريخهم من ناحية، وحتى لا تخدش مشاعرهم من ناحية ثانية، فهؤلاء في الحقيقة يخلطون بين قضيتين منفصلتين، فمسألة الحق الإبداعي قضية مستقلة، ومسألة المكانة الكبيرة أو الصغيرة للفنان قضية مستقلة أخرى، لذلك فليس الحديث عن قضايا حقوق الغير عندما يتعرض لها المبدع تؤثر في منزلته الفنية ولا منزلته الفنية يجب أن تؤثر في طرح قضية حقوق الآخرين!! وقد تعامل نقادنا العرب مع هذه القضية منذ القدم وكتبوا عن سرقات المتنبي وهو شاعر العربية الأول ولم يقل أحد إن مكانته الشعرية يجب أن لا تمس لأنه شاعر العربية الأول وذلك لأنهم يدركون وظيفة النقد الفني في كشف الزيف وتعرية المساوئ ومناصرة الصدق والحقيقة، علماً بأن جل تلك السرقات كانت معنوية، أي في المعاني، وهي سرقات خفية ودقيقة وتحتاج إلى عناء لاكتشافها وليست كسرقات اليوم التي تتم في رابعة النهار والسطو الكلي الذي يحدث لقصائد بكاملها وألحان بكاملها لبعض المبدعين، هذه قضايا يشيب لها شعر الجنين، كما تفرغ رئيس التحرير السابق لمجلة «الهلال» المصرية الأستاذ طاهر الطناحي لمدة ثلاث سنوات ليكتب عن سرقات أمير شعراء العربية أحمد شوقي، وكتب د. زكي مبارك أيضاً في إطار سطو أحمد شوقي تحت عنوان «سرقات شوقي» وهما مصريان ولم يقل أحد لمبارك ولا للطناحي إنهما ينشران غسيل عبقريتهما الشعرية أو إنهما ظلما ابن جلدتهما أو انتقصا من قدره، علماً بأن أغلب تلك السرقات المشار إليها معنوية وتتخللها آراء ذوقية لا وثائق ولا مستندات وثبوتيات مؤكدة تظهر للمتلقي كما نرى في سرقات هذا العصر!! ويعود ذلك إلى أن الوسط الثقافي هناك يدرك معنى النقد الصادق، فالمبدعون مهما كانوا مشهورين أو مغمورين يتساوون في ميزان الحق والعدل والإنصاف ويتساوون في عيون الناقد المنصف، فالنقد ليس تطبيلاً أو تهليلا أو ملقاً خطابياً أو مدحاً فقط، ولكنه إشادة بالمحاسن وهو أيضاً كشف للمساوئ والتعريض بها وإحقاق الحق لصاحب الحق مهما تواضع مركزه الاجتماعي أو الإبداعي .. أما واقع مشهدنا الثقافي في هذا الزمن فإن الناقد إذا أنصف المبدع وحرق البخور للإشادة بأعماله ومدحها ومدحه كان كاتباً كبيراً وناقداً فذاً في نظره ومبدعاً حقيقياً وصديقاً عزيزاً، وإذا ما أبصر خطأ ما وكشفه للناس أو أنصف مبدعاً آخر ولو بأسلوب فيه من الاحترام والتقدير كان الكاتب في نظر المبدع المخطئ ناقداً هزيلاً وتافهاً وحقيراً ومتسلقاً على أكتاف الكبار، وعلى الفور يشطب اسمه من قائمة الأصدقاء ليضم إلى القائمة حالكة السواد. نعود مرة ثانية لقضية الحقوق فأمام ميزان الحق يتساوى كل الناس الشاعر الكبير أو السياسي الخبير أو المطرب الشهير أو المثقف البصير مع الشاعر المتواضع أو الإنسان البسيط أو المراسل أو الأمي أو غيرهم، بل يشدد النقاد فيه العقوبة والتوبيخ على المبدع الكبير الذي ليس بحاجة إلى شهرة إبداعات غيره حتى يتسلق عليها.

وكأن هؤلاء النقاد ينظرون إلى سطو المشهورين والمغمورين والفرق بينهما أشبه بمن يتسلق جدران الآخرين ليسرق المال ويغتصبه وهو شبعان والآخر يتسلق ليسرق مال الآخرين ويغتصبه وهو جائع، فينطبق على الفريق الأول قول المحضار يرحمه الله «طماع بن مجنون في مالي وهو ماله معه طماع». وإذا راعينا مشاعر كبار المبدعين في أخطائهم وسترناها، فمن يراعي مشاعر البسطاء المظلومين وأصحاب الحقوق؟ أوليست لهم مشاعر إنسانية فيحزنوا ويتألموا لضياع حقوقهم؟! من ينصف هؤلاء وما ذنبهم في تجاهل حقوقهم إلا أنهم ضعفاء بسطاء مغلوبون على أمورهم فنساهم في تضييق الخناق عليهم ونزيدهم هضماً ولطماً وعدواناً؟؟ ثم ما ذنب المبدعين الذين رحلوا إلى رحاب الله بعد أن ملأوا آفاقنا بالفن الراقي وأفنوا حياتهم في خدمة وطنهم هل نسكت على حقوقهم المهدورة أو إبداعاتهم المنهوبة؟! لقد سهروا الليالي وتألموا وتعبوا حتى قدموا لنا إبداعاتهم السامية فهل نخون أماناتهم فينا؟! وهل جزاء هؤلاء ومكافأة نهاية الخدمة لهم أن نلوذ بالصمت المميت جحودا ونكرانا لما قدموه؟! أليس من حقهم علينا أن نبسط عليهم مظلة الحماية من امتهان الآخرين وسطوهم؟! أليس في صمتنا عن الدفاع عن حقوقهم المضيّعة مساهمة معاصرة في تجاهلهم وعدم احترام مواهبهم الكبيرة أو الصغيرة وتشويه تاريخهم الفني؟! للأسف هذه معادلة ظالمة لا يسير على خطاها بقصد غير قصار النظر، أو أصحاب المصالح الشخصية الضيقة، وأولئك الذين لا يحتفون بالقيم الإسلامية ولا الإنسانية كالعدل والإنصاف ونصرة المظلومين ولا يعرفون أقدار الرجال من المبدعين الحقيقين الأحياء أو الراحلين، فيخلطون الفهم في قضايا هي مستقلة في الأساس من ناحية، ويرتكبون بإيثارهم مجانبة الصواب خطأ أكبر من ناحية ثانية. إن النقد الفني الصادق لا يقصد به عدم احترام الناقد للمبدع، ولكن قد يقصد به عدم احترام المبدع لنفسه فيتدخل النقد الحق لتصحيح الخطأ وتعديل المسار المنحرف لأن الصمت والرضا بالأمر الواقع فيه خداع للتاريخ وللأجيال القادمة ويرسخ الفساد والفوضى ويغيب الإصلاح والأمل في التغيير نحو الأفضل. إن ظاهرة السطو الإبداعي لا تقيم وزنا للقيم في الفن ونحن نريد فناً يحمل قيمنا وأخلاقنا ونريد الفنان أن يكون ضمير أمته ويحمل رسالتها في فنه ويعمل على إرساء أخلاق شعبه من خلال الفن والسلوك الفني وإبرازها للمجتمع حتى يفيد منها الناس. نحن نريد من كبار مبدعينا كما هم مثل يحتذى في الفن أن يكونوا مثلاً يحتذى في الأخلاق والأصالة والقيم النبيلة. ولا نريد أن نكون في غابة ثقافية أو فنية يتضاءل فيها حجم العصافير والبلابل المغردة وتنتصر السباع ذات المخالب والأنياب.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى