الحفريات الأثرية في شرمة بحضرموت تكشف عن وجود مدينة اختفت فجأة

> صالح علي السباعي:

> قبل أن تقوم البعثة الفرنسية بهذه الاستكشافات عن ميناء شرمة، كان قد تطرق ثلاثة من الجغرافيين في العصور الوسطى لميناء شرمة في اليمن، ففي عام 985م ذكر المقدسي اسم شرمة ضمن قائمة التجمعات الموجودة.

بعد ذلك في منتصف القرن الثاني عشر كتب الإدريسي قائلاً:«إن شرمة و(سعاد) الاسم القديم للشحر كانتا محطتين على الطريق بين عدن ومربط في عمان، على تخوم حضرموت»، وفي حوالي عام 1300م أشار الدمشقي إلى وجود مينائين في حضرموت هما شرمة والشحر.

وأخيراً تقوم البعثة الفرنسية التي (Yemen Coast Survey Project) منذ عام 1996م في رأس شرمة بالقرب من الديس الشرقية على بعد حوالي 50 كيلومتراً إلى الشرق من الشحر بحضرموت بالتنقيب عن آثار قديمة للميناء، وقد تم اكتشاف موقع ميناء كبير في ذلك المكان، تبع ذلك القيام بحملتين أثريتين في يناير - فبراير من عامي 2002-2001م أوضحت تلك الحفريات أن شرمة كانت منشأة متميزة إذ كانت مخزناً كبيراً محصناً أسسه تجار من منطقة الخليج الفارسي في نهاية القرن العاشر الميلادي، وكان بمثابة محطة للتجارة الشرقية وأحد أنشط الموانئ على المحيط الهندي إلى أن هجره الناس على نحو مفاجئ في بداية القرن الثاني عشر الميلادي.

مختصر تاريخ الموقع:

سُكنت منطقة رأس شرمة منذ وقت بعيد، فقد تم تحديد العديد من المنشآت من فترة ما قبل التاريخ إضافة إلى وجود بعض الأدوات من الحجر الصوان تنتمي إلى العصر الحجري الحديث، كما كانت شرمة مأهولة في فترة حضارة جنوب الجزيرة العربية.

فقد وجدت آثار رصيف من حجارة المغليت الضخمة يرجح أن تكون لمعبد حميري يشرف على الخليج، كما جرى تحديد العديد من شقفات الخزف من فترة ما قبل الإسلام في الموقع منها ما هو مستورد من الهند وعمان وإيران مما يؤكد أن شرمة كانت ميناءً نشطاً في تلك الفترة غير أن من الغرابة أن الحفريات لم تظهر أي أثر من فترة حضارة جنوب الجزيرة العربية.

ازدهار شرمة في العصور الوسطى:

في نهاية القرن العاشر الميلادي جرى تشييد منشأة ضخمة في الجزء الغربي من السهل تشرف على الميناء وتتسم المادة الأثرية بشدة التجانس.

التحصينات: أكثر ما يميز بناء القرون الوسطى هو النظام الدفاعي شديد الدقة، لقد رأى الباحثون أن رأس شرمة كان معزولاً ويصعب الوصول إليه من داخل البر فهذه حماية طبيعية قد تم تعزيزها ببناء عدد من خطوط التحصينات حيث جرى تشييد العديد من الحصون الصغيرة والأبنية فوق أعالي الوديان المؤدية إلى السهل من أجل مراقبة أي قادم وتحذير السكان في حالة الخطر، أما التجمع السكاني نفسه فقد وفرت له الحماية بتشييد سور يبلغ سمكه 2.10 متر، ويتألف من جزئين يلتقيان عند مبنى الركن، كما وجدت العديد من الأبراج ذات قاعدة من الحجارة أما الأسوار فكانت من الطين ويبدو أنها تعود إلى فترة العمران الأخيرة للمدينة وقد تهدمت بفعل عوامل التعرية، وإلى الغرب يفصل حرف صخري صغير طوله 5 أمتار الموقع عن البحر ولا يتصل الميناء بالمدينة إلا عبر ممرين صغيرين يتمتعان بحماية كبيرة وربما كان المبنى بمثابة نقطة للحراسة أو محطة جمركية أو الاثنين معاً وربما كانا محجوزين بواسطة سور لديه باب كما يوجد في القمة خزان كبير ربما يعود هو الآخر إلى حضارة جنوب الجزيرة العربية.

المباني:

تمتد هذه المنشأة التحصينية لمسافة 5 هكتارات وقد تم تحديد بضع وخمسين مبنى ضمن نمطين واضحين يبلغ مساحة الواحد منها ما بين 50-35 متراً مربعاً وتتكون من غرفتين إلى ثلاث غرف. أظهرت معظم المباني التي جرى التنقيب عنها في عام 2001-2002م نفس تقنيات البناء ونفس المستويات من الطبقات الأثرية غير أن بعضاً منها بدا مختلفاً.

المساجد:

كان مسجد شرمة يقع في غرب المدينة عند حافة الحرف الصغير المشرف على الميناء وقد أظهرت الحفريات التي جرت في هذا القطاع في عام 2001م وجود ثلاثة مبان متعاقبة كان المسجد الأول صغير الحجم يبلغ عرضه 6 أمتار ولم تكن مساحته تزيد عن 25 متراً مربعاً يبلغ سمك الأساسات 55 سم، أرضيته مفروشة بالحصى، لا عجب في أن يكون شكل المحراب كالمشكاة، إذ لم يكن ترى واجهته اتجاه القبلة، هذا المسجد الأصلي استبدل فيما بعد بمبنى أكبر حجماً متجهاً نحو القبلة أما المسجد الثالث فغير معروف جيداً لم يبق من الجدران إلا أساساتها وقد بنيت من الأحجار الكبيرة الوردية.

عمران المدينة:

يحيط بمسجد شرمة من الناحية الجنوبية العديد من المباني على جانبي ممر ملتو الذي يمكن أن يكون سوقاً وهذا هو المثال الوحيد الذي تم العثور عليه حتى الآن في الموقع، أما الحي الأوسط الجنوبي الذي تزداد فيه كثافة البناء فإن المباني الكبيرة تبدو قد شيدت منعزلة وهناك كميات كبيرة من النفايات التي تحتوي على شقق الخزف وبقايا الأطعمة.

المواد الأثرية:

المواد الأثرية التي تم العثور عليها في شرمة تتميز بشدة تجانسها باستثناء بعض الشقق الخزفية لفترة ما قبل الإسلام كما وجدت كميات من بقايا البخور ووجد الكثير من الخزف والزجاج وهما في الغالب مستوردان وقد تم مقايضتهما في المحيط الهندي خلال القرن الحادي عشر، وهي ترفدنا بالمعارف على نحو فريد عن الثقافة المادية وشبكات التبادل التجاري في تلك الفترة.

يمثل الخزف الصيني والحجر الرملي 4.3% من إجمالي الخزف الذي عثر عليه أثناء بعثة 2001م وهي نسبة كبيرة بالمقارنة بتلك التي سجلت في مواقع إسلامية أخرى مثلاً كانت النسبة 0.9% في شرق إيران التي كانت أهم ميناء تجاري مع الشرق في القرنين التاسع والعاشر، تعتبر هذه المواد أغنى مجموعة من المستوردات الصينية يتم العثور عليها في موقع شرق أوسطي في تلك الفترة. تمثل المواد المطلية 90.7% من خزف شرمة من الممكن أن تكون إنتاجاً محلياً أو مستورداً من الخارج وينطبق هذا على الجرار المخروطية والقصاع الغليظة المعرفة باللون الأحمر والقدور المطلية باللون البرتقالي، وهناك الفرم الوحيد لإنتاج الخزف بالمنطقة المحيطة بشرمة يوجد في منطقة (يضغط) على مسافة 12 كيلو من شرمة لكن كل القطع الأخرى التي عثر عليها مستوردة من الهند أو من الخليج أو من تهامة.

ولكن السمة الأكثر وضوحاً في الذخيرة المكتشفة في شرمة هي كثرة المواد المستوردة من شرق أفريقيا.

استنتاجات البعثة الفرنسية:

توضح الحفريات التي أجريت في شرمة في عامي 2002-2001م خصوصية هذا الموقع. أولاً: تأكد بوضوح أن شرمة لم تكن ميناء يمنياً بالمعنى المفهوم بالرغم من أننا لا نزال نجهل الكثير عن تاريخ حضرموت لتلك الفترة إلا أننا نعرف أنه لم تكن هناك سلطة مركزية قوية تحكم تلك المنطقة كما أنه من الصعب أن نتصور قبيلة محلية تفلح في إنشاء مركز اقتصادي على هذا الطراز، وتنغمس على الفور في تجارة مع مناطق بعيدة مثل الصين وأفريقيا كل هذا على بعد أقل من 50 كيلومتراً من ميناء الشحر. إن شرمة كانت بكل تأكيد (امبوريوم) أي محطة للتجارة الخارجية أنشأها تجار أجانب كان لديهم شبكة تبادل تجاري قائمة من قبل وهذا ما يوضح لماذا كان هذا الميناء معزولاً ومحصناً بشدة.

التأسيس:

تم تأسيس هذا الميناء قبل 985م وهي السنة التي ظهر فيها اسم شرمة لأول مرة في النصوص لكنها لم تكن قبل ذلك، أما فيما يتعلق بأصل مؤسسي شرمة فإنهم ينحدرون بالتأكيد من منطقة الخليج الفارسي من إيران على الأرجح حيث يأتي منها كل الخزف المطلي الذي اكتشف في الموقع. إذن فإن من المؤكد أن تاريخ شرمة وثيق الصلة بأحد هذه التطورات التي شهدتها تجارة المحيط الهندي في الفترة الإسلامية أي اضمحلال (سيرف) وازدهار (هرمز) حيث تحطم رائدة التجار البحرية العالمية ميناء فارس العظيم في العصر العباسي بفعل زلزال 977م وأدى اضمحلال الميناء إلى سقوط الأسرة الحاكمة (بني بويه) التي كانت تسيطر على فارس 930م، من المؤكد إذن أن تأسيس شرمة وأنشطتها ونهايتها المفاجئة ترتبط جميعها بكل هذه الأحداث فمن الممكن إذن أن تكون شرمة قد تأسست على حدود نفوذ تجار البحر الأحمر الذي هو آخر محطة لسفن الخليج على ساحل الجزيرة العربية. وثانياً كان القرن الحادي عشر فترة عرفت فيها المواقع الساحلية بشرق أفريقيا نمواً كبيراً بازدهار المدن التجارية الكبيرة والتوسع الإسلامي، وأخيراً شهدت حضرموت خلال هذه الفترة تطوراً مهماً تمثل في وقوعها وضمها إلى الإمامة الأباظية الكبرى في عمان ولا بد لوجود مركز عالمي كبير على شواطئها تأثير على تاريخ المنطقة. إذن فإن شرمة تعتبر أحد أهم موانئ المحيط الهندي و(امبريوم) كبير للتجارة مع الشرق في فترة مفصلية في التاريخ. سوف يسمح استمرار الحفريات في شرمة بتوفير ما ينقص من معلومات ويتحدد تاريخ هذا الموقع الاستثنائي ودوره في تجارة المحيط الهندي واليمن. هذا هو استنتاج البعثة الفرنسية، الذي وافانا به الأستاذ خالد بن جميع، من جمعية التراث والآثار في الديس الشرقية، أما تعليقات الكثير من المثقفين والشخصيات الاجتماعية من أبناء المنطقة فقد كانت تتمحور في القول ما أشبه الليلة بالبارحة. ولا تزال شرمة تعاني الحرمان والعزلة رغم وجود هذا الميناء المهم فيها والذي تتجاهله الدولة رغم أنه لن يكلفها شيئاً فهو هبة من الله ورغم وجود شواطئها الناعمة التي أصبحت ملاذاً للسلاحف بدلاً من البشر بعد أن قالوا إنها أصبحت محمية طبيعية وتم منع الناس من الدخول إليها لفترات طويلة وفي هذه الفترة تم استخدام الميناء من قبل مهربي الديزل وأشياء أخرى مستغلين انقطاع الإنسان عن زيارتها وأجمع الكثير من أبناء المنطقة أن شرمة بحاجة إلى عناية الدولة واهتمام قيادة المحافظة وخصوصاً اهتمام الأخ محافظ حضرموت، الذي بصماته واضحة في معظم المناطق وكذلك مساعدة الشركات النفطية العاملة في المنطقة التي يمكنها الاستفادة من شرمة كمنتجع سياحي لموظفيها إذا توفرت بعض المشاريع الخاصة بالبنية التحتية مثل توصيل الطريق الذي لا يبعد أكثر من 10 كيلومترات عن الطريق العام الدولي وتزويدها بالكهرباء والماء وإقامة شاليهات سياحية على شواطئها ليتمكن المواطنون من قضاء العطلات فيها إضافة إلى توفير الوقود والخدمات في الميناء ليتمكن الصيادون من العمل والبقاء فيها وبهذا ستعود الحياة إلى شرمة من جديد وينتهي زمن العزلة والحرمان.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى