أول نقيب للصحافيين اليمنيين يبحث عن سنوات الخدمة .. عبدالباري طاهر: اسمي كاد يختفي بين الأسماء المستعارة

> «الأيام» متابعات:

> نواصل في هذه الحلقة الغوص في شخصية عبدالباري طاهر الكاتب والسياسي وأول نقيب للصحافيين اليمنيين وصاحب التاريخ الحافل والمعارك الفكرية التي جعلت منه رجل الاستثناء، والفكر والوداعة والنكتة أيضاً.

وفي العدد السابق أبحرنا في تفاصيل حياته الأولى ومولده في الثامن من مارس/آذار عام 1941 في قرية المراوغة إحدى أجمل مناطق محافظة الحديدة غرب صنعاء وتعرفنا إلى الطريقة التي حاول والده ان يعده من خلالها ليكون مشروع فقيه وكيف حدثت التحولات الأولى في حياته حتى تحول إلى رجل تشرب بالاشتراكية. وفي السطور التالية تستعيد ذاكرته العديد من الحكايات مع الصحافة والسياسة وأشياء أخرى.

ردة فعل أسرته على توجهه الجديد لم تثنه، كانت معتقداته مختلفة وراسخة على الأقل بشأن حلم الحرية. ومجددا يفلت عبدالباري من قصته إلى حكاية وطن، وحين يتحدث عن الثورة يبدي شجنا خاصا، وحزنا على فقدان الثورة قيمتها من جيل إلى آخر. كل جيل يأتي يصبح أقل تقديرا لأحاديث الماضي وللماضي برمته.

ينظر جيل اليوم إلى الآخر فيشعر بالأسى، عدم الرضا بالحاضر يفقد أحداث وتحولات الماضي قيمتها. ويهدر دماء الثوار.

وهذا كفيل بإغاظة عبدالباري وكل من شهد الثورة ويمن ما قبل الثورة.

ليس أن عبدالباري راض عن الحاضر، بل لأن مشاكل الحاضر لم تكن يوما نتيجة للثورة، كانت الثورة نتيجة حتمية لتجاوز الألم قدرة الناس على الاحتمال.

يتحدث كثيرا ثم يختصر الأمر برمته قائلا: “من لم يعرف اليمن قبل الثورة لا يمكنه إنصاف الثورة، ومن لم يعرف اليمن بعد الثورة لن يتمكن من تقدير ما حدث ويحدث”.

يمن ما قبل الثورة كان ظالما، قال: “المتوكليون (المملكة المتوكلية) ظلمت اليمنيين كلهم، كان نظاما قائما على الجباية وكان الناس مزارعين وعمالا وبسطاء بالكاد يحصلون على ما يقيم الأود”.

يتذكر أنه في الزيدية، في الزهرة، المراوعة، زبيد، وكل مناطق الحديدة التي يعرفها أن أسراً معينة تملك كل شيء فيما البقية لا يملكون شيئا، كان هذا يحدد نوع العلاقات الاجتماعية، والحديث للأستاذ عبدالباري، كان هناك سادة وعبيد، مشايخ ورعية.

ويضيف قائلاً: “الحديدة كانت في المركز الثاني تجاريا بعد عدن، رغم هذا كان ناسها فقراء، بساطتهم وجنوحهم للسلم جعلهم فقراء أكثر من غيرهم، بالنسبة لي ما زالت كذلك، الفارق تغيرت المسميات، مثلا، في الحديدة بالتحديد، أصبحت عضوية البرلمان ملكية خاصة وإرث عائلي”.

ويتابع الأستاذ عبدالباري حديثه عن الحديدة التي يعرفها قبل الثورة: “العلاقات الفلاحية والزراعية كانت الأساس، كان الناس يخضعون لملاك الأراضي من الأسياد والمشايخ والتجار، وعندما قامت الثورة حدث ما يشبه الانتفاضة ضد الخصوم المباشرين، المزارعون ثاروا على الإقطاعيين الذين يستخدمونهم مقابل لا شيء”.

يتذكر أن: “أنصار الثورة من الشباب في منطقته سارعوا بعد قيام الثورة إلى اعتقال المشايخ والأسياد، أجمل ما في ذلك أنهم فعلوه كإجراء وقائي بعد أن هدد غضب الناس المذنب والبريء”. أخطاء دامية لكن ما الذي حدث بعد قيام الثورة؟، لماذا استمرت سبع سنوات؟، ولماذا قاومها الناس إذا كانت خيارهم؟ ولماذا تغيرت أشياء كثيرة؟ يقول عبدالباري طاهر: “لم تكن الثورة خيار كل اليمنيين، ليس لأن لديهم خياراً آخر، كان اليمنيون بعيدين عن لعبة الخيارات، كانوا دون خيارات أصلا”.

ويضيف: “لم يكن اليمنيون متخلفين أبجديا فقط، كانوا متخلفين معرفيا حتى أن الثورة كانت مفردة غريبة وغير معروفة إلا في حدود صغيرة، خصوصا في الشمال، ففي الجنوب ساهم تشكل الأحزاب السياسية على توسع قضية الثورة على نطاق واسع، لكنها فقدت فيما بعد أهدافها فخسرت جمهورها وانقسم قادتها إلى يمين ويسار وخطي مواجهة، في الشمال قام بالثورة مجموعة ضباط لم تكن معرفتهم باليمن كبيرة، والنخب السياسية المشاركة والمؤثرة والمتأثرة موجودة في المدن، وهي بحجم صغير ؛ فيما الريف وهو الأقوى كان بعيدا عن فكر الثورة وأهدافها”.

ويشير إلى أنه “كان الريف في يد المشايخ، والمشايخ غالبيتهم مع الإمام قبل أن يتحولوا إلى تجار حرب، بالإضافة إلى الأسباب الخارجية، فالسعودية وإيران والأردن وقفت إلى جانب الإمام في الشمال، وأوروبا كلها وقفت إلى جانب بريطانيا في الجنوب، ورغم اعتراف واشنطن بالثورة إلا أنها واصلت دعم استمرار الحرب بهدف زعزعة نظام عبدالناصر في مصر المتورط في الحركة الثورية في المنطقة”.

ومن الأخطاء الدامية التي تحدث عنها الاستاذ عبدالباري أن “المصريين الذين جاءوا لمساعدة الثورة قاموا بتمويل رؤساء القبائل (المشايخ)، فيما كان المشايخ يلعبون دورا مزدوجا، في النهار مع الثورة ومساء مع الإمام، وتتبعهم قبائلهم”. ويؤكد أن “هذه الأخطاء لم تفسد هدف الثورة الحقيقي، لكنها حفرت دهاليز العمل السري فيما بعد، وأطالت أمد المعالجات، وكشفت بأن هناك فارقاً بين الحلم والواقع إذا لم يكن لديك خطة”.

ما بعد الثورة من هنا تبدأ سيرة عبدالباري طاهر، أو هكذا يعتقد، كل ما سبق كان مجرد بروفة بالنسبة له، بعد الثورة عمل موجها تربويا ومشرفا على المدارس في باجل والمراوعة، فقد كان من قليلين حصلوا على مستوى جيد من التعليم، وبين كثيرين فاتتهم قسمة الغنائم.. بعد الثورة كان لصائدي الفرص من المتعلمين طريقتهم في تسلق سلم النجاح والاستفادة من التغيير، وبقي أمثال عبدالباري طاهر أضعف من الاشتراك في معركة قسمة الغنائم وتصيد الفرص.

كان بسيطا بالفطرة قادما من أرض البسطاء؛ فلا عجب حين يتذكر أسماء زملاء الصبا ممن يجلسون اليوم في القمة: “ هذا بالنسبة للمتعلمين، أما البقية فقد امتلكوا على الأقل حرية الإرادة، فلاذ كثيرون بالغربة، حدث ذلك بعد استقرار الثورة، من مطلع السبعينات تحديدا، لا بد أن لليمنيين سراً مع الغربة، دائما يفضلون أن يبدأوا خارج الحدود. حين تضيق بهم الظروف لا يسعهم مكان قريب إطلاقا”. بقي عبدالباري موجها تربويا حتى 1967 ثم التحق بشركة التجارة الخارجية، وهي إحدى شركات القطاع العام التي أصبحت فيما بعد مؤسسة الحبوب، فعل ذلك ليحسن دخله كي يتمكن من الزواج، ويقول: “كان الراتب في التوجيه التربوي لا يسمح بالتفكير في تجهيز منزل والزواج”، راتبه في التوجيه التربوي كان 60 ريالا، وأصبح في (التجارة الخارجية) 150 ريالاً، ويصف ذلك بقوله: “كانت هذه الزيادة نقلة نوعية في حياتي”.

تزوج عبدالباري عام 1970 وعروسه كانت جارته، كان عمها مسؤولا ماليا في المراوعة حيث يعمل، وعمها الثاني كان صديقا ويعمل في مالية الحديدة. ويرفض الاعتراف بأن زواجه كان تقليديا، يقول: “كانوا جيرانا، انتقلوا إلى الحديدة، وأنا فعلت ذلك مع عملي في التوجيه التربوي، زواجي كان فيه شيء من التقليدية لكن أيضا كان هناك معرفة سابقة وقوية”.

لم يستقر عبدالباري طاهر من قبل، ولم يفعل ذلك حتى بعد الثورة، وكأنه لم يجد طريقه بعد، كانت الكتابة أفضل ما يشعره بالتحسن، بدأ يكتب منذ 1967 في صحيفة “الجمهورية”، ثم في مجلة “الكلمة” التي أسسها عام 1970 الدكتور محمد عبدالجبار سلام في الحديدة تلك الفترة، ثم مجلة “الحكمة” التي أسسها عام 1972 في عدن عمر الجاوي. وكان له في كل مجلة اسم مستعار، لم يكتب باسمه الحقيقي إلا بعد أن انكشف سر أسمائه الزائفة التي لاذ بها ليخفي نشاطه السياسي.

العمل السري

بعد الثورة التحق عبدالباري بحزب الشعب الديمقراطي أحد الأحزاب اليسارية، كان ضمن مجموعة الشهيد عبدالله عبدالمجيد السلفي، وهي مجموعة ماركسية، كانت الأحزاب السياسية محظورة ومجرمة، لذا لاذت بباطن الأرض لتمارس نشاطها: “كان نشاط هذه الأحزاب هو نقد الوضع القائم وأخطائه، وكانت لها صحف سرية توزع على الأعضاء”. الحزب الديمقراطي كان اسم جريدتهم (الديمقراطي) وكانت تقدم قراءات للواقع السياسي ولحركات القمع التي تفشت كثيرا، لدرجة أن وجود طابعة في منزلك قد تلقي برأسك بعيدا عن جسدك.

هوسه القديم بالقراءة حبب إليه الكتابة، وحتى في العمل السري وجد نفسه مسؤول النشاط الثقافي، يقرأ كتبا ويلخصها ويلقي محاضرات، ويعتقد أن ذلك ما ألقى به في نهاية الأمر إلى بلاط صاحبة الجلالة، وقال: “كان الجانب الأدبي أهم حتى من الجانب السياسي بالنسبة لي وأقرب”.

كتاباته وجدت طريقها إلى الناس، حتى عرف صاحب الأسماء المستعارة، كان اسمه (حسن علي) في مجلة الكلمة، و(أحمد معتوق) في الحكمة، يقول: “وجدت أن أسمائي هذه أصبحت تدلل علي أكثر من اسمي الحقيقي فقررت استعادته”.

أول نقيب في العام 1975

غادر عبدالباري طاهر جريدة “الثورة” كما غادر غيره لينتخب في العام التالي رئيسا لجمعية الصحافيين اليمنيين في الشطر الشمالي من الوطن والتي ساهم في تأسيسها في 22 ابريل 1976.

ويصف هذا التاريخ بـ “المتأخر” بالنظر إلى تواريخ تأسيس عدد من النقابات والجمعيات، وشيء آخر، كانت النقابات تأسست في الشطرين تحت نفس المسمى ضمن محادثات تتعلق بالوحدة اليمنية، وحدها نقابة الصحافيين لم تكن كذلك.

التحق عبدالباري طاهر عقب ثورة 1962 بالاتحاد العام لنقابات اليمن أثناء رئاسة عبدالله الصيقل له، كانت هذه البداية فقط مع العمل النقابي.

وكانت النقابات تتحد أو تتأسس في ظل تنسيق بين ضفتي الوطن في الشمال والجنوب حتى اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين “حتى العمل السياسي السري كان موحدا، إذا افترقوا أو اختلفوا كان الأمر تكتيكيا”، على حد تعبير طاهر الذي خاض تجربة العمل السري أيضا.

شارك بشكل رئيسي في محاولات تأسيس كيان نقابي يضم الصحافيين اليمنيين. كانت النقاشات تصل إلى طريق مسدود حين يتعلق الأمر بالصحافيين، ربما لأن الحرية لم تكن هدفا واحدا للثورتين في الشمال والجنوب فقط، بل إنها سبقت حتى هدف الوحدة اليمنية نفسها.

في الجنوب “كان النظام الاشتراكي يخلط بين العمل الحزبي والنقابي”، هكذا قال وهو يلقي نظرة على تلك الأيام، ويئست أنا من محاولة إبقائه قريبا من أشيائه الخاصة.

وربما لأن أشياءه الخاصة كانت جزءا من حكاية وطن، ولا يمكنها الظهور بغير هذه الطريقة، اكتفيت بتدوين تاريخه، أو تاريخ وطن، لا يهم. كانت النقابات من وجهة نظر النظام الاشتراكي مدارس حزبية أو أذرع ميدانية للعمل الحزبي. وكان الصحافيون بالذات يقومون بمهام سياسية يومية، فيما يرى نظام الشمال أن السياسة نشاط ثانوي بالنسبة للعمل النقابي، وأنها مجرد شكل من أشكال النشاط الاجتماعي، وكان يحرص على ضمان بقائها كذلك. وبناء على ذلك: “الصحافيون مجرد يافطات توعوية، ومكبرات صوت لخطاب الزعيم، ولأن هناك زعيمين، ونظامين، فلن يرغب أحد في وصول يافطات الآخر وصوته إليه”.

وجهتا النظر المختلفتين كانتا في الأصل متفقتين أن الإعلام أحد أسلحتها، ولن يصبح كذلك إذا منح الحرية، أو حتى القليل منها قد يفرضه وجود كيان واحد.

على الأقل تمكن الصحافيون في منظمة الصحافيين الديمقراطية في الجنوب وجمعية الصحافيين في الشمال عام 1979 من انتخاب عبدالباري طاهر لتمثيلهما إقليميا.

رأس عبدالباري طاهر جمعية الصحافيين في الشمال عام 1978 في ثاني مؤتمراتها العامة، وبقي طاهر رئيسا لجمعية الصحافيين ثلاث فترات متتالية. كان رابع رئيس للجمعية بعد عبدالله الوصابي، ثم الأستاذ محمد الزرقة، وبعده، الأستاذ محمد المساح، كان مؤتمر الجمعية يعقد كل ثلاث سنوات، فيما ينتخب النقيب كل عام. لم يكن الأمر صعبا، ويضحك: “ كنا بين 60 و 70 عضواً في الجمعية، كانت عضوية معظمهم مش ولا بد بس علشان نزيد العدد”.

في 7 يوليو/تموز 1990 وبعد شهر من قيام الوحدة اليمنية انتخب عبدالباري طاهر أول نقيب للصحافيين اليمنيين في مؤتمر توحيدي جمع الصحفيين اليمنيين أخيرا في كيان واحد، وبقي نقيبا للصحافيين حتى 1998 بسبب قيام حرب صيف 1994 وهو العام الذي كان مقررا لعقد مؤتمر النقابة الأول. بعد قيام الوحدة أيضا ترأس عبدالباري طاهر جريدة “الثوري” لسان حال الحزب الاشتراكي، ثم تفرغ أواخر التسعينات للعمل في مركز الدراسات والبحوث التابع لجامعة صنعاء.

اختزال

حين تحدث عبدالباري طاهر عن حياته المهنية بدا أن جمعها يتطلب كتابا كاملا؛ فمن أين يبدأ؟، كلما فرحت بابتسامته أو نكته الساخرة وهو يتذكر موقفا ما أجدني متورطا في تاريخ، في حدث، في وضع سياسي، أو اقتصادي، عالق في حكاية ليست حكايته وحده.

ما الذي أقترفه هنا؟، إني أختزل الرجل بشكل فض، ولا أملك خيارا أمام حياة حافلة، كأنها كرست لتكون مجموعة من الأحداث الكبيرة، نقية بلا مكان لحدث ثانوي، ما الذي يمكن فعله أمام رجل لا يجيد الحديث عن نفسه أبدا غير الاكتفاء بالتدوين؟ خلال مسيرته المهنية سافر كثيرا، اكتشف الكثير، التقى بمفكرين وسياسيين وأعلام، ناظرهم، أو حاورهم إن كان بالإمكان تسمية ما جمعه في كتاب (فضاءات القول) مجرد حوارات فكرية وأدبية.

في منتصف السبعينات أجرى حوارا طويلا مع الشاعر والناقد المصري صلاح عبدالصبور في القاهرة، وحوارا آخر أجراه على مدى أكثر من أسبوع مع الروائي والناقد غالب هلسا في القاهرة أيضا. في أحد أسفاره التقى بالكاتب والصحافي العربي محمد حسنين هيكل، وأجرى معه حوارا فكريا طويلا، تطلب عددا من أشرطة الكاسيت، وحين عاد اكتشف أن آلة التسجيل لم تعمل.. قال: “كان محرجا أن أعود إليه، ومن يومها أقسمت ألا اعتمد فقط على آلة التسجيل”.

نهاية العمل السري بصعوبة وجدنا الأستاذ عبدالباري طاهر ، هذا الرجل جم التواضع ، بسيط الكلفة، الذي يهرع لاستقبال طفل يطرق بابه غير آبه بكل هذا التاريخ ، حصلنا بصعوبة على موعد معه.عمله الحالي في مؤسسة العفيف يأخذ كل وقت ما بعد الظهر وحتى الثامنة مساء.

ولم يعد للرجل عمل فترة الصباح بعد إحالته للتقاعد. يمكن أن تجده صباحا في نقابة الصحفيين يتضامن مع صاحب الدور في التعرض لاعتداء، أو يبحث عن كتاب ، أو يزور صديقا، أو يمر بأماكنه القديمة.

لكنه مؤخرا يقضي معظم الوقت يركض في أروقة المصالح الحكومية بحثا عن تاريخه، بحثا عن سنوات لم تحتسب من خدمته في التربية والتعليم، أو شركة التجارة الخارجية (الحكومية) أو صحيفة “الثورة”، أو مركز الدراسات.

لقد أحيل للتقاعد دون هذا كله، قال : “أنا أبحث عن راتبي”، وتابع بسخرية فشلت في محو مسحة حزن : “احتسبوا العمر ولم يحسبوا سنين الخدمة”. لا بد أن يشعر بالغبن، مثله لا يمكن تصديق أنه مضطر للركض خلف موظفين إداريين ولدوا وقد قضى مثل أعمارهم يزرع ما يحصدون خيره، ليمنحوه حقوقه، بدلا من أن تركض إليه ممتنة.

الأستاذ عبدالباري طاهر مطالب بوثائق وأوراق وتوقيعات لتثبت أنه الأستاذ عبدالباري طاهر، ووثائقه سرقت في زمن لم يكن أحدنا ليحتمله.بعد الثورة، تاهت أهداف الثورة، فكثر المخبرون والدسائس، وعبدالباري طاهر لم يكن شيئا يمكن إخفاؤه، لم يكن هامشيا، ولم يتقبل فكرة التسلق على أكوام تقارير الوشاية أو خطب التبجيل والنفاق السياسي. وفي كل مرة يشتبه في عبدالباري طاهر كان يخسر مكتبته وأوراقه.

مرتين سلبت مكتبه، الأولى عام 1973 في الحديدة. يومها اعتقل مع عدد من رفاقه لأنهم استقبلوا صالح الدحان وناجي بريك والدكتور عبدالرحمن عبدالله، كانوا مجرد أصدقاء لهم فرحوا بمرورهم بالحديدة فأرادوا إكرامهم، لكنهم لم يكونوا من أصدقاء السلطة، ورجالاتها، فاعتقل مضيفوهم، واقتحم المخبرون منازلهم يفتش عن احتمال خيانة، دليلا ولو واهياً على مخطط انقلاب، حملوا كل شيء وغادروا إلى مزبلة الذاكرة.في المرة الثانية كان عائدا من جريدة “الثورة” في صنعاء حين لمح صديقه محمد اليازلي ينتظره في ركن المنزل ويشير له بالابتعاد، حدث ذلك بعد انقلاب فاشل نفذه الناصريون ضد الرئيس علي عبدالله صالح.

قال : “المضحك أن زوجتي كانت قد نقلت الكتب إلى منزل صديق اسمه محمود مجاهد نعمان وسافرت إلى الحديدة ، وفي نفس الأسبوع اعتقل نعمان ونهبت المكتبة”.

ما لم يفعله المخبرون بمكتبه ووثائقه وأوراقه فعلته زوجته، يتحدث عن ذلك ضاحكا، فحتى هي لا يمكنها أن تنجو من نكاته.

في كل مرة تثور مشكلة في البلاد ، وتردد الطرقات وطء أقدام المخبرين كانت تجمع كل ما تجده وتحرقه خوفا على عبدالباري من أن تغدو إحدى هذه الأوراق التي تجهل محتواها سببا لفقد عبدالباري.عمله السري عقب الثورة كان سبب مخاوفها، وقلقه، ظل هذا النشاط معه حتى منتصف الثمانينيات حين قرر التخلص منه، تسبب بذلك صومالية ذكرته بمخاوفه.

يومها كان يعمل سائق تاكسي، حين أوقفته صومالية تطلب توصيلها، وحين وصل إلى المكان المحدد كان أمام بوابة الأمن السياسي (الاستخبارات) في صنعاء، وكان قد ضجر من ثرثرة راكبته التي لم يتفق معها مسبقا على ثمن التوصيلة.

أمام بوابة (الاستخبارات) تذكر كل مخاوفه، وكم مرة زار هذا المكان، ناولته الصومالية عشرة ريالات، كان مبلغا زهيدا، لكنه أخذه وهم بالمغادرة، فما ذكرته به لم يترك لديه رغبة في مفاوضة يعلم مسبقا أنها عقيمة، أشعره المكان بالضجر. غير أن الصومالية صرخت :

“إيش فيه ، تاخذ عشرة ريال كلها”، كانت العشرة ريالات أقل بكثير من الأجرة ، ربما رأت الزبونة أن لديها فرصة في ابتزاز سائق لم يتفق معها مسبقا على السعر ولم يحاول حتى مفاوضتها في النهاية.

قال الأستاذ عبدالباري طاهر ضاحكاً : “أعدت إليها العشرة ريالات وبعت السيارة عند أقرب معرض قبل حتى أن أصل إلى البيت”، ويومها تخلص من آخر شيء يربطه بعمله السري.

الأستاذ عبدالباري طاهر :

ـ من مواليد 8 مارس 1941 بمنطقة المراوعة في محافظة الحديدة.

ـ حاصل على لسانس آداب في اللغة العربية من جامعة صنعاء.

ـ أب لثمانية أبناء، منهم ست فتيات.

ـ صدر له ثلاثة كتب هي: اليمن الإرث وأفق الحرية، اليمن في عيون ناقدة، فضاءات القول (حوارات فكرية وأدبية)، وله مجموعة من الأعمال (شيء من الكسل) كما قال يؤخر جمعها وطباعتها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى