أيام في بلاد الفقر والظلم والصفيح الحار

> مقديشو «الأيام» سلطان سليمان :

>
تشغل الصومال منطقة استراتيجية حيوية، فهي تقع على كامل القرن الأفريقي بشاطئ طوله أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر يمتد من المحيط الهندي غرباً إلى باب المندب شمالاً، أي أنها عند الممر الحيوي لناقلات النفظ والبضائع على اختلافها بين آسيا وأوروبا وأميركا، لذلك كانت المنطقة دائماً محل نزاع بين المستعمرين، وقد تمكن مستعمرو القرن الماضي من التوصل إلى تقسيم بلاد الصومال الكبرى فكان نصيب الفرنسيين ما يعرف اليوم بدولة جيبوتي، ونصيب الإنكليز ما يعرف اليوم بجمهورية «صومالي لاند» في الشمال أو «أرض الصومال»، غير المعترف بها دولياً، إضافة إلى إقليم أوغادين في أثيوبيا وشمال شرقي كينيا، أما نصيب الإيطاليين فكان جنوب الصومال ووسطه.

في مطلع الستينات من القرن الماضي، وفي وهج نهوض حركات التحرر، حصلت هذه المستعمرات الصومالية على استقلالها وتوحدت «صومالي لاند» مع الصومال في دولة الصومال التي باتت عضواً في جامعة الدول العربية فيما بقي إقليم أوغادين تحت الحكم الأثيوبي وبقيت جيبوتي دولة مستقلة تدور في الفلك الفرنسي كما بقيت منطقة شمال شرقي كينيا تابعة لكينيا، وفي العام 1969 قام الجنرال محمد سياد بري بانقلاب عسكري وشكل حكماً قريباً من المعسكر السوفياتي والرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر وأنشأ دولة قوية أصبح لديها في سنوات قليلة رابع أقوى جيش في القارة الأفريقية، لكن تحولت قوتها إلى لعبة الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، فانقلب سياد بري على السوفيات وطرد خبراءهم من بلاده ليشن في العام 1977 حرباً على أثيوبيا تحت شعار استعادة إقليم أوغادين، ونجح خلال أشهر قليلة في السيطرة على الإقليم، لكن الزعيم الأثيوبي منغستو هيلامريام الذي كان أيضاً حليفاً للسوفيات استعان بحلفائه من المعسكر الشرقي ومنهم كوبا وطرد الجيش الصومالي بعد حرب استمرت سنتين.

انعكست الهزيمة صراعاً داخلياً في الصومال امتد بصورة سياسية حتى العام 1991 عندما وقع انقلاب عسكري على سياد بري فدخلت البلاد حرباً أهلية تناهشتها فيها القبائل وزعماء الحروب.

مع بداية الحرب الأهلية سارع أهل الشمال إلى إعلان انفصالهم عن الصومال وإنشاء دولة «صومالي لاند» التي لم يعترف بها أحد فيما تواصلت الحرب بين القبائل وزعماء الحرب في الصومال إلى أن حاولت الأمم المتحدة التدخل فأرسلت عام 1992 قوة دولية لفض الصراع الداخلي لكن أنصار زعماء الحرب هاجموا القوة الدولية ودمروا عدداً من آلياتها وقتلوا العشرات من جنودها، فتدخلت الولايات المتحدة الأميركية عام 1993 لمساعدة القوة الدولية غير أن مصير جنودها لم يكن أفضل فتعرضت قوات المارينز لنكسة كبيرة عندما وقعت في كمين محكم نصبه لها أنصار زعيم الحرب محمد فرح عيديد وقتل العشرات من الجنود وجرى سحلهم في شوارع مقديشو.

انسحبت القوات الدولية والأميركية من مقديشو عام 1994 وتركت البلاد في فوضى عارمة حتى السنة الماضية عندما قام تنظيم المحاكم الإسلامية، ذو النفوذ الواسع وسط قبيلة «الهواية» كبرى القبائل الصومالية، بهجوم كاسح اقتلع فيه أمراء الحرب من البلاد وأحكم قبضته عليها ورفض التفاوض على مستقبل البلاد فكان أن تدخلت أثيوبيا بدعم أميركي وأرسلت جيشها لطرد المحاكم الإسلامية من الصومال بذريعة أن المحاكم تشجع الصوماليين في إقليم أوغادين على الانفصال.

مقارنة أثيوبيا بسورية

حال الاهتراء السياسي والأمني والاجتماعي وغياب الشقيق العربي عما يقوم به جيش أثيوبيا التي ينظر إليها الكثير من الصوماليين على أنها العدو التاريخي، أو أنها «الشيطان الذي لا بد منه لإنقاذ البلاد» بحسب ما قال لنا مسؤول صومالي طلب عدم الكشف عن هويته.

وعن رأيه بالوجود الأثيوبي في بلاده أجاب «إن سورية شقيقة للبنان وقد لعبت دوراً كبيراً في إعادة بناء مؤسسات الدولة فيه على رغم كل ملاحظات السياسيين اللبنانيين عليها ولكن اللبنانيين في النهاية وبعد قرابة ثلاثين سنة قالوا كفى وسعوا إلى سحب الجيش السوري من بلادهم.

اليوم وعلى رغم العداء التاريخي بين أثيوبيا والصومال أرسلت أثيوبيا جيشها إلينا وأوقفت الحرب، وهي تحاول المساعدة في بناء مؤسسات البلد الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية، فلتفعل ذلك، ولو على الطريقة التي فعلتها سورية في لبنان، وأنا أضمن أنها لن تبقى أكثر من 15 سنة في أرضنا».

وعن انفصال الشمال وإعلان دولته الخاصة لا يخفي المسؤولون الصوماليون ارتياحهم المؤقت لهذه الخطوة ويصفها البعض بالحكيمة لأنها «جنبت جزءاً كبيراً من البلاد ويلات الحرب الأهلية».

وكشف المسؤول الصومالي أن مفاوضات تجرى خلف الكواليس لإعادة توحيد البلاد في رعاية أثيوبية.

وعند مغادرتنا البلاد صادف أن كان معنا على الطائرة التي أقلتنا من عاصمة «صومالي لاند» هيرغيسا إلى العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، رئيس «صومالي لاند» ضاهر ريالي كاهن وكانت السجادة الحمراء في انتظاره على أرض المطار من دون مسؤولين كبار أو فرقة تشريفات كما العادة في استقبال رؤساء الدول.

لا يخفي الصوماليون إحباطهم من العرب وكثير منهم ردد أمامنا القول «لا نعرف ما أهمية وجودنا في الجامعة العربية، فهي لم تلعب أي دور فعال في أي من مشاكل المنطقة من لبنان إلى فلسطين إلى العراق إلى هنا، كما أن القلة من الصوماليين يتحدثون اللغة العربية لأن اللغة الرسمية هي اللغة الصومالية، وتعتبر الإنكليزية اللغة الثانية في مناهج التدريس.

إننا مسلمون وفخورون بإسلامنا وانتمائنا إلى الأمة الإسلامية أما العرب فلا فائدة ترجى منهم».

ويذهب البعض إلى معاتبة مصر تحديداً قائلاً: «لقد استخدمتنا مصر تاريخياً فزاعة في وجه أثيوبيا لئلا تتحكم أثيوبيا بمجرى نهر النيل ولكن عندما واجهتنا الأزمات تركنا في البحر الهائج بلا اهتمام من أشقائنا العرب وتحديداً مصر».

ومن خلال التواصل مع دوائر القرار في رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء كان لافتاً وجود عدد لا يستهان به من المثقفين الشباب القادمين من أوروبا وأميركا لمد يد العون في إعادة بناء بلدهم، وهؤلاء من المتحمسين الذين يحتلون مواقع استشارية، ولكن، ليس في الإمكان معرفة مدى فعالية استشاراتهم وإن كانت ستظهر في القريب العاجل.

أغرب المطارات

يصعب على من يرغب في زيارة الصومال للمرة الأولى أن يجد طريقاً إليها، فالطائرات التي تصل إلى الصومال قديمة تملكها أربع شركات خاصة من جمهورية «صومالي لاند» غير المعترف بها دولياً ومن جيبوتي ومن كينيا، ورحلات هذه الشركات إلى مقديشو غير مدرجة في نظام الملاحة العالمي.

لذلك لا بد للمسافر من أن يشتري بطاقة السفر بنفسه من مكاتب تلك الشركات.

تستمر الرحلة الجوية من أديس أبابا إلى عاصمة «صومالي لاند» هيرغيسا نحو ساعتين، ومن هيرغيسا لا بد من شراء بطاقة إلى مقديشو على متن طائرة تابعة لشركة طيران خاصة اسمها «دالو».

ركوب هذه الطائرة في حد ذاته مغامرة مرعبة، فالطائرة روسية الصنع من طراز اليوشين 18- صنعت عام 1958، يقودها طيار روسي يرتدي بنطلوناً للرياضة و «تي شيرت» وحفاية ويطوّق رقبته بفوطة صفراء.

سلم الطائرة من الحديد الذي يرفع ويوضع بين المقاعد عند إغلاق أبواب الطائرة، ويوجد مضيفان زوجة الطيار التي تجاوزت الستين من العمر وولدهما الذي تجاوز العشرين، وفريق من ستة فنيين لإصلاح ما يطرأ من أعطال خلال الرحلة.

أما أحزمة الأمان فيتم ربطها لأنها قديمة وبالية (من يحتاج إلى حزام أمان في هكذا طائرة).

يشعر المسافر عند وصوله إلى مطار مقديشو إنه ولد من جديد.

وأول ما يراه المسافر على مدرج المطار في مقديشو طائرة من «بيلاروسيا» دمرت جراء الحرب الأخيرة بين القوات الأثيوبية وميليشيات المحاكم الإسلامية، أما مبنى المطار فخال من أي باب أو شباك وينتشر حوله وفيه جنود من القوات الأوغندية التابعة للاتحاد الأفريقي وجنود أثيوبيون.

وفي داخله ينتشر رجال الشرطة الصومالية الذين لا يلبسون زياً موحداً، فكل يرتدي ما يتوافر لديه من لباس يدل على أنه عسكري، فهذا ببنطال عسكري وتي شيرت وذاك بقميص عسكري وبنطال مدني وحفاية.

الفوضى عارمة والحقائب تشق طريقها إلى عنبر خاص ليصار إلى تفتيشها وتسليمها إلى أصحابها.

ولا تستغرق الرحلة بالسيارة إلى الفندق وسط مقديشو أكثر من عشرين دقيقة في طرقات رملية لم تر الإسفلت منذ قرابة العشرين سنة، مليئة بالحفر، تتحرك عليها حناطير بدواليب سيارات تجرها الحمير، وتسرح على هذه الطرقات المواشي من بقر وغنم وماعز والسواد الأعظم من الناس يمضي يسير على الأقدام تحت شمس حارقة.

وتنتشر تحت الأشجار على جانبيها مقاه متواضعة عبارة عن كراس بلاستيكية بلا طاولات، ومناقل فحم تعلوها أباريق شاي غير معروفة اللون.

أول ما يلفت نظر الزائر في الطرقات هو السيارات التي لا تحمل لوحات تسجيل، وإن صادف ورأى أحدها بلوحة تسجيل فتكون اللوحة التي استوردت بها السيارة من دبي ولم يكلف صاحبها نفسه عناء نزع اللوحة عنها، ومن السيارات الحاملة لوحات دبي سيارات الشرطة التي تشبه بركابها والرشاشات الثقيلة المحمولة عليها سيارات الميليشيات أيام الحرب الأهلية.

كما يلفت نظر الزائر عدم وجود محطات بنزين، فهذه المادة توزع بصهاريج صغيرة تجرها الحمير أو في غالونات عند الباعة في الشوارع.

ولأننا الصحافيون الوحيدون الذين زاروا الصومال بعد دخول القوات الأثيوبية إليها، كانت السلطات مهتمة بأمننا اهتماماً ملحوظاً، إذ نصحتنا بالمبيت في فندق يقع داخل المربع الأمني التابع لمؤسستي الرئاسة ورئاسة الوزراء والسفارة الأثيوبية الجديدة في مقديشو، وهو كان في غابر الزمان فندق خمس نجوم لا تزال النعمة بادية عليه، بالموكيت البالي على أرضه والغرف الواسعة فيه والمزودة مكيفات قديمة، لكن الحشرات على أنواعها تنتشر في غرفه بكثافة.

لا يحتاج الزائر إلى أكثر من ساعات قليلة حتى يكتشف حجم المغامرة التي خاضها بالذهاب إلى الصومال، فعناصر الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية هم تجميع لرجال الميليشيات الذين تحاربوا ست عشرة سنة وليس بينهم من يعرف معنى الدولة، لذلك كان بديهياً أن يتعرض فريقنا الصحافي لمحاولة خطف من مجموعة مسلحة أبلغنا لاحقاً أنها تابعة لما يسمى فرع «مكافحة الإرهاب» في الشرطة، بذريعة معلومات تفيد أننا من تنظيم «القاعدة» الأصولي.

وقد كان أحد مساعدي رئيس الوزراء الصومالي طوق نجاتنا من محاولة الخطف داخل مطعم الفندق، بعد أن عرّف عن نفسه وأجبر المسلحين على الخروج بعد المعاملة الفظة التي عاملونا بها والإرهاب الذي مارسوه علينا.

ولم يخف مضيفنا مخاوفه الأمنية علينا بعد الحادث إذ قال إن هؤلاء المسلحين بحسب تقديره كانوا يهدفون السرقة وبعدها يمكن أن يقتلونا ويرمونا في شارع ما، ومن الطبيعي أن يتهم بقتلنا مسلحو المحاكم الإسلامية «النائمين»، لكنه وعدنا بعد الحادث بإيجاد مرافقة أمنية لنا من جنود ثقة لخشيته من أن يبيعنا المرافق إن لم يكن أميناً.

الجولة في مقديشو تدمي القلب، فهذه المدينة الجميلة بأشجارها الباسقة والوارفة على واحد من أجمل شواطئ المحيط الهندي هي عبارة عن بيوت من الصفيح الحار، يبلغ عدد سكانها حوالى 2.5 مليون نسمة، أبنيتها الضخمة المدمرة أو التي يحتلها المهجرون تخبر عن عز مضى، وهي خالية من الأبواب والشبابيك وشبكات الماء والكهرباء والصرف الصحي، وقد كانت يوماً من الأيام مؤسسات حكومية ومسارح وسفارات لكنها باتت اليوم مسكناً للمهجرين في بلدهم ينبت الشجر والصبار عند مداخلها وفي حدائقها.

أما الذين لم يجدوا لهم موطئاً في هذه المباني فقد بنوا مخيمات في أنحاء مختلفة من المدينة، وهي عبارة عن أكواخ مصنوعة من جذوع الشجر المغطاة بقطع من التنك المغطى بأقمشة بالية متعددة الألوان والأحجام تغلف الكوخ لتقيه من المطر وحرارة الشمس.

لكن ميسوري الحال يملكون بيوتاً من الطين مسقوفة بألواح من الزينك يطلى باللون الأحمر ليبدو عن بعد كأنه قرميد، ولكن الهدف الرئيس من طلائه تخفيف حرارة الشمس عن ساكني المنزل.

وسكان مقديشو بغالبيتهم حفاة يحملون أجسادهم النحيلة في أثواب بالية، خيالاتهم تحكي قصة الظلم الذي يجتاح هذا البلد.

وسيلة النقل الرئيسية لديهم هي الحمير، فهي الأقل كلفة، لأن الحمار يأكل ما يقدم له ولا يحتاج إلى صيانة، لذلك فإن سعره مرتفع يصل إلى 300 دولار، أما بقية وسائل النقل فهي كل ما يمكن أن يركب، من حافلة إلى سيارة صغيرة إلى شاحنة أو حنطور.

ويشكل رعي الماشية مصدر العيش الرئيسي للصوماليين إضافة إلى الزراعة التي تضررت كثيراً بفعل الحرب وغياب الرعاية الحكومية، ومنذ العام 2000 قاطع العرب الماشية الصومالية بسبب إصابتها بالحمى القلاعية (ينفي الصوماليون ذلك ويقولون إن المقاطعة سياسية ولا أسباب صحية لها) فيما الصناعة تقتصر على المياه المعدنية والمرطبات الغازية بعد أن دمر قطاع الصيد وتعليب الأسماك.

طعام الصوماليين في شكل عام هو لحوم الماشية التي تقدم مسلوقة إلى جانب المعكرونة أو الرز، يأكلون بأيديهم التي يغسلونها في وعاء ماء من دون صابون، ويغسل الجالسون على المائدة أيديهم عادة في وعاء واحد.

أما وسيلة التسلية الوحيدة فهي «تخزين القات» أي مضغ هذه العشبة المنبهة وتخزين الممضوغ في أحد جانبي الفم حتى الذوبان، وتشكل أثيوبيا المصدر الأساسي للقات المستهلك في الصومال.

وتقول تقارير منظمة الأغذية والزراعة الدولية (فاو) إن المواطن الصومالي يعيش على أقل من دولار واحد في اليوم.

العائلة هي النواة الأساسية لما يمكن أن يسمى مؤسسة في المجتمع الصومالي، وفي هذه العائلة، المرأة تعمل وتنتج أكثر من الرجل، فالمرأة تعمل في كل الميادين بدءاً من أعمال تنظيف الشوارع وصولاً إلى الزراعة والرعي.

وبعد العائلة تأتي القبيلة، وهنا يمكن القول إن النظام القبلي هو لعنة الشعب الصومالي ونعمته في آن خلال الحرب الأهلية، ففي الصومال أربع قبائل أساسية هي «الهواية» و «داروود» و «در» و «رحن وين»، أكبر هذه القبائل «الهواية» التي تشكل غالبية سكان مقديشو ومنها يتحدر رئيس الوزراء علي محمد جيدي كما كان يتحدر منها زعيما الحرب اللدودان محمد فرح عيديد وعلي مهدي، فيما يتحدر الرئيس الصومالي الحالي عبدالله يوسف أحمد من قبيلة «داروود».

وإذا كان الصراع القبلي شكل واحداً من مظاهر الحرب الأهلية فإن وجود النظام القبلي خلالها شكل السلطة الوحيدة للإنسان الصومالي بعد انهيار الدولة، يلجأ إليها المتخاصمون لفض نزاعاتهم، والحكم الذي يلفظه زعيم القبيلة يعتبر مبرماً لا يرد ولا يستأنف.

مع دخول القوات الأثيوبية إلى مقديشو بدأت السلطات المركزية تعود إلى المدينة وكان أول العائدين مقرا رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء فيما لا يزال مقر البرلمان في مدينة بيداوا شمال غربي العاصمة، لكن تدابير انتقاله إلى مقديشو بدأت وهي تحتاج إلى بعض الوقت لإنجازها.

أما الوزارات فلا تزال أسماء بلا أمكنة، وتشكل بعض الفنادق الواقعة في المربع الأمني الرئاسي مقراً شبه دائم لمعظم الوزراء.

ويبلغ عدد أعضاء البرلمان 275 نائباً وهو يضم زعماء كل القبائل فيما يبلغ عدد الوزراء 31.

أما السلطة النقدية في البلاد فهي شبيهة ببقية المؤسسات، فليس هناك سوى فئة واحدة للعملة هي فئة الألف شلن، والدولار الواحد يساوي ستة عشر ألف شلن.

الصحة والتربية

ومثل قطاعات الخدمات في الصومال فإن القطاع الصحي هو قطاع خاص فقط ويفتقر إلى الأطباء والممرضين بصورة واضحة، إذ إن عدد الأطباء في كل الصومال لا يزيد على المئتين يخدمون خمسة ملايين نسمة، وثلثا الأطباء في العاصمة مقديشو فيما يتوزع الباقون على كل المحافظات، لكن هناك محافظات يتجاوز عدد سكانها النصف مليون نسمة وليس فيها طبيب واحد.

ولا يوجد في كل الصومال أطباء للأمراض العقلية ولا جراحو قلب أو دماغ أو أنف وأذن وحنجرة أو عيون.

مستشفى المدينة في مقديشو أكبر مستشفيات الصومال، كان سابقاً مستشفى للشرطة ومع انهيار مؤسسات الدولة في الحرب أصبح مستشفى خاصاً، يبلغ عدد الأسرة فيه خمسة وستين وعدد الأطباء ستة فقط من بينهم أربعة جراحين من خريجي روسيا واليمن وإيطاليا يتقاضى الواحد منهم مرتباً شهرياً يبلغ حوالى الخمسمئة دولار.

كما يعمل في المستشفى خمسون ممرضاً وممرضة براتب شهري لا يزيد على المئة دولار.

وعلى رغم أن أكبر عملية جراحية تجرى في المستشفى لا تزيد تكلفتها عن المئتي دولار فإن قلة من الناس لديها القدرة على تحمل هذه الكلفة، لذلك تعتمد المساعدات الطبية التي تقدمها المؤسسات الدولية غير الحكومية.

يقول مدير المستشفى الدكتور شيخ الدين صالاد علمي إن المستشفى يستقبل شهرياً حوالى مئتي مريض، وبسبب نقص الأسرة فيه تنشر فرش إسفنجية تحت الشجر في حديقة المستشفى للمرضى بعد إجراء العمليات الجراحية لهم.

في وضع صحي كهذا يبطل العجب في أسباب كون معدل الحياة في الصومال لا يزيد على السبعة وأربعين عاماً بحسب أرقام منظمة الصحة العالمية.

أما التعليم فغاب عن الحياة الصومالية مع بداية الحرب الأهلية عام 1991، وحتى العام 1996 عندما تداعى بعض المثقفين مع بعض الأهالي إلى المبادرة إلى فتح مدارس وجامعات خاصة.لكن الأوضاع الأمنية المتقلبة جعلت من الصعب مواصلة إرسال التلاميذ إلى المدارس، كما أن الأقساط العالية نسبياً جعلت التعليم حكراً على الميسورين، إذ يتراوح القسط المدرسي بين عشرة دولارات شهرياً في المرحلة الابتدائية إلى أربعين دولاراً شهرياً في المرحلة الثانوية.

أما في الجامعات فيبلغ القسط السنوي بين 400 دولار للكليات النظرية و800 لدراسة الكومبيوتر.

وفيما يبلغ مرتب المعلم حوالى المئة دولار شهرياً فإن مرتب الأستاذ الجامعي يبلغ حوالى 500 دولار وقد يصل إلى 1500 دولار بحسب المادة التي يدرسها.

ويبلغ عدد المدارس في مقديشو حوالى مئتي مدرسة فقط، وتشكل الثقافة الإسلامية العمود الفقري لكل المواد الدراسية، فهناك مدارس متخصصة بتدريس القرآن الكريم وهي عبارة عن كتاتيب تقدم وجبات طعام مجانية لطلبتها، ويتم التدريس فيها وفق منهج التحفيظ، وعندما يعود التلميذ إلى بيته يكون عليه أن يكتب بالفحم على ألواح خشبية الآيات القرآنية التي حفظها ليقدمها إلى المدرس في اليوم التالي. كما أن مادة الثقافة الإسلامية تشكل أحد المقررات الإلزامية في المدارس وفي الجامعات، وكان البنك الإسلامي للتنمية أنشأ أول كلية للتربية في جامعة مقديشو خلال الحرب، كما تبرع ببناء كلية تمريض وقدم بعض المختبرات.

وفي أوضاع كهذه فإن نسبة الأمية تبلغ 88 في المئة وهي إلى ارتفاع بحسب منظمة اليونيسكو.

المواصلات والاتصالات

وفي الإمكان القول إن قطاع الاتصالات في الصومال هو نفط البلاد حالياً على رغم غنى البلاد بمناجم الذهب والماس واليورانيوم وكلها غير مستثمرة.

هناك أربع شركات هاتف خليوي وهو وسيلة الاتصال الوحيدة في البلاد وهذه الشركات هي «تلكوم» و «هورمود» و «سوموفون» و «نيشن لينك»، وقد بدأ قطاع الهاتف الخليوي في العمل مطلع العام 1994 على أيدي مجموعة من رجال الأعمال الشباب الذين عرفوا من أين تؤكل الكتف في ظل الانهيار التام لخدمات الهاتف العام، إذ إن الميليشيات المتحاربة كانت بحاجة لوسيلة اتصال، فبدأوا العمل بتسهيل من الميليشيات، ويقول مسؤول في إحدى الشركات إن كل ميليشيا كانت تتقاضى ما يساوي مئة دولار بث هاتفي هوائي شهرياً لحوالى 22 خطاً هاتفياً مقابل تسهيل عمل الشركة، وعند سيطرة المحاكم الإسلامية لم تدفع الشركات أي شيء لتسهيل عملها بحسب قول هذا المسؤول.

وقال المدير العام التنفيذي لشركة «تلكوم» عبدالله محمد حسين إن لدى شركته حوالى 85 ألف مشترك و18 محطة في الصومال إضافة إلى حوالي 40 ألف مشترك وثماني محطات في «صومالي لاند» ويدير هذه المحطات أربعة مهندسين فقط.وفيما رفض حسين الكشف عن أرقام أرباح شركته أو رأسمالها قال إن أرباح الشركة تصل إلى الخمسين في المئة من إجمالي رأس المال وإن ثمن سهم الشركة يبلغ ألف دولار وإن لديها حوالى 150 حامل أسهم وإن الحد الأدنى المسموح به في شراء الأسهم هو ثلاثة.

أما بطاقات الدفع المسبق للهاتف الخليوي فهي من فئات الدولار الواحد والدولارين والخمسة دولارات فقط.

أما طرقات البلاد فهي عبارة عن شوارع ترابية تفتقر إلى الإسفلت بمعظمها، كما تفتقر إلى يافطات بأسماء الشوارع والاتجاهات، وفيها مطارات عدة أبرزها مطار مقديشو الذي يبلغ طول مدرجه اليتيم 2700 متر ويستقبل يومياً حوالى 300 راكب على شركات خاصة هي «أفريكان اكسبرس» (كينية) و «جيبوتي اير» (جيبوتية) و «دالو اير» و «جوبا اير» (صومالية).

وعن نسبة الأمان على هذه الطائرات قال أحد المسؤولين الصوماليين لنا: «الأعمار بيد الله».

أما برج المراقبة في المطار فيفتقر إلى أبسط مقومات الملاحة الجوية، فكل ما فيه من معدات هو منظار حربي وجهاز لا سلكي يدوي وهاتف خليوي.وعاش ميناء العاصمة مقديشو عهده الذهبي في أيام الحرب الأهلية، عندما شكل أكبر معبر لتهريب البضائع من أنحاء العالم إلى معظم الدول الأفريقية، فلم يكن هناك ضرائب على البضائع التي تصل إلى المرفأ وكان المبلغ الذي تتقاضاه الميليشيات زهيداً جداً، حرصاً منها على استمرار تدفق البضائع واستمرار مداخيلها من المرفأ.ولكن، مع إحكام المحاكم الإسلامية قبضتها على البلاد في العام الماضي، خضع المرفأ لمراقبة مشددة من البحرية الأميركية المنتشرة في المحيط الهندي وبحر عدن، وباتت الحركة منه وإليه شبه مشلولة إلا من بعض السفن التي تنقل مواد غذائية إلى الصومال أو الجلود من الصومال إلى الخارج.

تعيش الصومال اليوم هدوءاً نسبياً بعد هزيمة «المحاكم الإسلامية» لكن التحدي الأكبر أمام الحكومة الحالية المدعومة من أثيوبيا هو تثبيت الأمن وإعادة بناء مؤسسات الدولة وإطلاق ورشة إعادة البناء في ظل استمرار «المحاكم الإسلامية» بأعمالها العسكرية من وقت لآخر لإرباك حركة الحياة.

وفي هذا التحدي يحتاج الصومال بحسب أرقام الأمم المتحدة إلى ما يقارب بليوني دولار لإعادة البناء، وعلى رغم عدم توافر المتحمسين للمشاركة في هذه العملية فإن القلة المتوافرة تنتظر استقرار الوضع الأمني الذي لن تظهر نتائجه قبل عام على الأقل.وإلى ذلك الحين يبقى الوضع على ما هو ويبقى الصوماليون فريسة الجوع والقهر والظلم الاجتماعي.

عن« الحياة»

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى