رحلة الى عالم العذريين (3)

> «الأيام» د. عبده يحيى الدباني:

> ويقول شاعر آخر من العذريين:وإني لمشتاق إلى ريح جيبها كما اشتاق إدريس إلى جنة الخلد

هكذا يدهشنا هذا البيت لنعيد النظر في الظاهرة العذرية كلها، فهل كان الشعر العذري موضوعه المرأة فحسب أم إنه يطمع إلى المرأة ومن ثم يتخذها رمزاً إلى حياة سعيدة وجنة خالدة، فقد حمل الشاعر العذري المرأة ما لا تحتمل، لأنه نظر إليها بعين المحب المتيم المحروم وجعل منها معادلاً موضوعياً لكل ما هو جميل ومشرق وهنيء وبعيد المنال، فمن هنا كادت المرأة في الشعر العذري أن تكون موضوعاً ورمزاً معاً كما يدل البيت السابق على الرغم من واقعية الشعر العذري وتجاربه وقصصه، لقد فقد أهل البادية كثيراً من مقومات حياتهم القديمة ولم تكن بيئتهم مؤهلة للتحضر والرقي، وحرموا من المال والسلطة معاً فوجدوا في المرأة آخر معقل يتمترسون خلفه، فهي عندهم تعني نفسها وتعني أشياء أخرى كثيرة حرموا منها. ولعل من أطرف ما جاء به العذريون في تجاربهم العاصفة وأشعارهم، هو أنهم كانوا يرضون بالقليل ممن يحبون، بل بأقل القليل وباللاشيء أحياناً أخرى. لقد عصرتهم الظروف القاسية وعلمهم الحرمان والمنع والحجب وكثرة العذال والرقباء أن يكونوا زاهدين في من يحبون بحيث يقتنعون بأقل القليل منه، فهذا قيس بن ذريح الشاعر العذري الذي أجبره أبواه على أن يطلق زوجته (لبنى) وهو لها محب، فما كان منه بعد طلاقها ورحيلها إلا أن هام على وجهه في الصحراء ندماً مغبوناً فاقداً إرادته وتوازنه، هاهو يقول يتعلل بالقليل، بعد أن كانت (لبنى) طوع يديه:

وإن تك لبنى قد أتى دون قربها

حـجـابٌ مـنـيعٌ مـا إلـيه سـبيلُ

فإن نسيمَ الجو يجمعُ بيننا

ونبصرُ قرنَ الشمس حين تزولُ

وأرواحنا بالليل في الحي تلتقي

ونـعـلـم أنـا بـالـنهـار نـقـيـلُ

وتجمعنا الأرضُ القرارُ وفوقنا

سماء نرى فيها النجومَ تجولُ

فيا ترى أي حب هذا في عمقه وصدقه وبراءته وصفائه الذي جعل الشاعر يرى في الكون بيتاً صغيراً يجمعه بزوجته التي نأت خلف الجبال والرمال بدلاً من بيت الزوجية الذي تقوضت أركانه بفعل عادات بدوية وقبلية ما أنزل الله بها من سلطان، لقد ذهبت لبنى وشط مزارها إلى غير عودة.فليس لديه إلا أن يتغرغر باسمها ستولد من شفتيه ولكن هيهات.. فليس هناك ما يجمع الشمل ويمثل قاسماً مشتركاً بين الزوجين المنفصلين بالقوة إلا نسيم الجو ورؤيتهما معاً للشمس وهي تغرق في رمال البادية، ويكفيه عزاءً أنهما يسكنان الأرض معاً، كما أنهما يستظلان تحت سقف واحد، هو ليس سقف (الخيمة) طبعاً ولكنه السماء الواسعة المرصعة بالنجوم التي تجول فيراها الحبيبان كل من مكانه، بيد أن الشاعر لم ينس أن يؤكد أن روحيهما ما برحتا تحلقان في جو الحي عند كل مساء وتلتقيان، فلا بأس من انفصال الجسدين ما دام الروحان يلتقيان.

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى