الذكرى الـ 16 لرحيل الفنان الكبير محمد سعد الصنعاني وأهمية دوره في الغناء اليمني الحديث والمعاصر

> «الأيام» عصام خليدي:

> تميزت تجربة الفنان المبدع محمد سعد الصنعاني بمحاور وملامح واشتغالات غنائية موسيقية متعددة ومتفردة ذات رؤى وأبعاد جديدة مغايرة لكل ما كان سائدا ومألوفا في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ونستطيع القول والجزم من خلال متابعتنا لما قدمه هذ الفنان من عطاء ونتاج إبداعي حافل وزاخر أصيل ومتجدد، أنه من طراز وفصيلة رواد الغناء اليمني المعاصر، الذين وضعوا اللبنات الأساسية التي ساهمت في تغيير أسلوب ونمط الغناء اليمني من شكله التقليدي والدفع به إلى فضاءات جديدة ومسارات إبداعية واسعة رحبة أمثال الموسيقار يحيى مكي والموسيقار أحمد بن أحمد قاسم والأساتذة الفنانين سالم بامدهف، اسكندر ثابت، محمد مرشد ناجي، محمد سعد عبدالله، خليل محمد خليل، حسن فقيه، جميل غانم، فضل محمد اللحجي وغيرهم ممن رفعوا على أعناقهم مهمة تطوير وبلورة المشروع الغنائي الموسيقي الحديث في اليمن إلى الأقطار العربية الشقيقة والمجاورة.في هذه التناولة المقتضبة سوف نقدم بشكل مختصر ومكثف محاولة لقراءة نقدية مباشرة نتعرض من خلالها لأهم الملامح والخصائص الفنية (الغنائية الموسيقية) في تجربة الفنان الكبير محمد سعد الصنعاني.

أولا: كان لجمال الطبيعة وسحرها الخلاب في مدينة لحج الأثر الواضح والجلي في تشكيل وتكوين ذائقته ومزاجه الفني الراقي والرفيع، عشق وافتتن بمحيطه وبيئته (لحج الخضيرة)، بساتينها وروابيها، سهولها ووديانها، حقولها ومراعيها، فلها وكاذيها، تشبع برائحة عبق الأرض مع هطول الأمطار وأثناء مواسم جني الحصاد، وتشرب من فنون وموروث وفلكلور وادي تبن طقوسا وعوالم مختلفة مثيرة موغلة في عمق الحضارة والتاريخ نهل منها واستفاد وتعلم الكثير من الأسرار والخفايا من مصادرها ومنابعها الأصلية، كان غيورا ومحبا لما قدمه الأسلاف من فنون وتراث إبداعي إنساني، بالإضافة للمبدعين الذين جايلهم وعايشهم، وعلى رأسهم الأمير أحمد فضل القمندان، والاساتذة عبدالله هادي سبيت وصالح فقيه، لكن فناننا المبدع محمد سعد الصنعاني عندما قدم نفسه بنتاجاته الخاصة المستقلة للجماهير اليمنية تمرد بوعي ودارية وحنكة تنم عن رؤى ومعرفة تستند على ثقافة موسيقية وأدبية شاملة لفنان وملحن وشاعر يمتلك (موهبة استثنائية) على مختلف المستويات والمعايير الإبداعية الفنية، جعلته يتفوق على ذاته غنائيا وموسيقيا بنجاح منقطع النظير، ويؤسس مدرسة تجديدية حديثة في الغناء اليمني، متجاوزا بمشروعه الفني مدينة لحج إلى عموم الوطن اليمني والجزيرة العربية والخليج العربي، لقد جاء إلى الساحة الفنية حاملا جُمله وأشكاله الموسيقية الجديدة المغايرة ذات التكنيك الموسيقي العالي الرفيع، مؤكدا قدراته وملكاته في إعادة صياغة وتشكيل ذائقة المستمع في الداخل والخارج. والمتابع لتاريخ الغناء في لحج ومرجعيته التي تعتمد على حركة الإيقاع والرقصات الشعبية يشعر من الوهلة الأولى عند سماعه لأعماله الغنائية بدوره الفاعل الريادي في لحج ومدرسته الموسيقية التجديدية ومدى تأثر تلاميذه بألحانه سواء كانوا من مدينة لحج أم في عموم اليمن، ولعل من أبرز الفنانين الكبار الذين تأثروا به فضل محد اللحجي، صلاح ناصر كرد، محمد سعد عبدالله، محمد مرشد ناجي، سعودي أحمد صالح، حسن عطا، وكثيرين أحبوه وعشقوا فنه البديع.

جدير بالإشارة أن أجيالا مختلفة متعاقبة من الملحنين والفنانين المعروفين في الساحة الغنائية اليمنية قاموا باستخدمات لقوالبه اللحنية وجمله الموسيقية في أعمالهم وأغنياتهم من بعده بطريقة (الاقتباسات الفنية) وبإمكاننا أن نوضح ونبين ذلك التأثر متى ما رأينا ضرورة تستدعي ذلك.

ثانيا: كان من أوائل الذين انضموا إلى (رابطة الموسيقى العدنية) في بداية الخمسينات من القرن الماضي، بل وقام بتدريس النوتة الموسيقية والمقامات العربية والغربية المختلفة بشكل علمي منهاجي لكافة أعضاء ومنتسبي ذلك الكيان الإبداعي الفني، الذي ضم نخبة من أبرز الفنانيين اليمنيين في تلك الفترة من العصر الذهبي، كما أنه كان يجيد بمهارة فن التعامل مع الآلات النحاسية، بالإضافة إلى مواهبه العديدة كرسام ومسرحي ومهندس إلكتروني بارع.

ثالثا: يعتبر الفنان الكبير محمد سعد الصنعاني رائدا من رواد الغناء التجديدي الحديث في اليمن، فعند الاستماع لأعماله الغنائية الموسيقية يشعر المتلقي باشتغالاته الجادة والجديدة المبتكرة وانهماكه المضني الشاق في البحث لخلق صياغات لحنية وقوالب موسيقية يتوافر فيها تغيير المقامات الموسيقية وتعدد الكوبليهات بالإضافة للنقلات اللحنية المتدفقة ثرية الصور والدلالات التعبيرية من الناحية الموسيقية في سياق أغانيه التي تحمل ذلك الجهد المبذول فنيا، والتي تتجلى بإشراق ووضوح في الأغنيات التالية على سبيل المثال: لوعتي، يا اللي وعدت القلب، يا نجوم الليل، يا شاكي غرامك، بكشفه للثام، هاتها بكله هات، بالعيون السود، ردد التغريد، الحلم أصبح حقيقة وغيرها من الأغنيات الجميلة التي ارتقت بذائقة الجماهير العريضة وذاع صيتها في الداخل والخارج بأصوات الفنانين الكبار وفي مقدمتهم الفنان المبدع عبدالكريم توفيق والاستاذان محمد بن محمد باسويد وطه فارع وغيرهم.

رابعا: استخدم مقام (الراست) الشرقي ببراعة واقتدار مستفيدا من كل أبعاده في السلم الموسيقي في معظم ألحانه، على سبيل المثال في الأغاني التالية: لوعتي، يا اللي وعدت القلب، ردد التغريد، بالعيون السود، كما استخدم مقام (البيات) ووظفه توظيفا موسيقيا بديعا في أغنية (يا شاكي غرامك) وغيره من المقامات الموسيقية العربية الأخرى.

خامسا: عرف عن الفنان محمد سعد الصنعاني دقته وحسن اختياراته للنصوص الغنائية التي قام بتلحينها والتي تجسد في معظمها وتحمل بموضوعها ومضمونها الأدبي (قضية ما) أو (رسالة انسانية) يقدمها الشاعر إليه في سياق القصيدة، فيتبناها الصنعاني فنيا ويعيد صياغتها لحنا ونغما موسيقيا دافئا ودافقا مُلئ بالشجن والأحاسيس والعاطفة الجياشة التي تلامس شغاف القلوب، واشتهر الصنعاني ايضا بكتابة نصوصه الغنائية كشاعر مجيد مقتدر، ولعل من أبرز ما قدمه لجمهوره ومحبيه على سبيل المثال: ردد التغريد، بكشفه للثام وغيرهما.

سادسا: كان رحمه الله محبا متيما بصوت الموسيقار الخالد محمد عبدالوهاب وبعقبريته الفذة في مجال التلحين، بالإضافة لاستماعه ومتابعته للغناء العربي من خلال اساطينه العظماء سيد درويش، سلامة حجازي، عبده الحامولي، صالح عبدالحي، أم كثلوم، فريد الاطرش، اسمهان، ليلى مراد وآخرين وكان متابعا ومهتما بموسيقى الشعوب وتاريخها وثقافاتها وموروثها الإنساني الإبداعي الحضاري وبالسيمفونيات العالمية.

كلمة لا بد منها: محمد سعد الصنعاني قامة فنية سامقة حفرت وبصمت بل ووشمت في ذاكرة الغناء اليمني التجديدي الحديث في اليمن وفي الجزيرة العربية والخليج العربي، ونستغرب حجم التغييب والتهميش الذي لازمه ورافقه في حياته وبعد مماته ربما لعدم إدراكنا لأهميته ومكانته الفنية الإبداعية العالية المرموقة وما قدمه لهذا الوطن. إننا نعبث ونهدر أهم الثروات التي منحها الخالق لعباده في الأرض (الانسان المبدع)، وبطبيعة الحال كلما كان عطاؤه خارقا استثنائيا كان حظه ونصيبه من الجحود والنكران جزيلا ووافرا .

دعوة نوجهها لوزير الثقافة بضرورة الوقوف أمام إبداعات ونتاجات هذا الفنان الفكرية الغنائية الموسيقية في الغناء اليمني المعاصر بجدية لنفض الغبار من عليها بعد سني الإهمال واللامبالاة. والله من وراء القصد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى