( دار ناصر) كان صرحا فهوى!!

> «الأيام» محمد سالم قطن:

> طيلة العصر الوسيط، استأثرت مدينة الشحر بموقع الريادة بين موانئ جنوب الجزيرة العربية على بحر العرب. فقد كانت سوق حضرموت وميناءها الرئيس، تأتيها قوافل الجمال من أعماق الوديان وشتى الصحارى في داخل حضرموت وأطرافها، وعلى شاطئها ترسو عشرات السفن الشراعية تنقل منها وإليها عبر البحار تجارة بحرية رائجة ساعدت في تسييرها الرياح الموسمية التي ما برحت تدعى في كتب الجغرافيا، إلى يومنا هذا ، بالرياح التجارية.

وخلال المعارك القبلية والحروب المتوالية التي عصفت بحضرموت بين الدويلات المحلية المتنافسة في تلك الفترة التاريخية، كانت الشحر هي الجائزة التي يحرص المنتصرون على الظفر بها؛ فهي الميناء والسوق والعاصمة. ليس هذا فقط، بل إن الغزاة والقراصنة كانت أبصارهم كثيرا ما ترنو إلى هذا السوق لعلّه يكون لهم فيه موطئ قدم. وما حدث للشحر أواخر القرن الميلادى السادس عشر على أيدي المستعمرين البرتغاليين من هدم وتدمير، مازال مداده طريا في دفاتر التاريخ.

معظم معالم تاريخ هذه المدينة قد اندثرت ولم يبق منها سوى القليل المهمل الذي أبقاه الزمان شاهدا على جهل الخلف بمآثر السلف. أقول قولي هذا، وأنا أقف في هذه اللحظة أنظر لما فعلته عوامل التعرية البشرية منها قبل الطبيعية بمعلمين هامين من معالم تاريخ مدينة الشحر في العصر الوسيط هما (دار ناصر) قصر الدولة القديمة وديوانها و(حصن بن عياش) ترسانة الدولة القديمة ووزارة دفاعها!! الخراب الطبيعي ونعيق الغربان قد يكونان أهون في بعض الحالات مما لحق بما تبقى من (دار ناصر) حيث جرى تحويل قاعدته وواجهاته إلى مصاطب وحوانيت وأكشاك. الخراب تراكم بفعل الإهمال في الطبقات العلوية منه، السلالم الحجرية انهارت والجدران تصدعت والقاعات الوثيرة التي طالما استضافت أمراء الزمن القديم ومجالس حكمهم ومؤتمراتهم ومؤامرتهم استحالت إلى طللٍ بالٍ وصرح يريد أن ينقض.

القصر الذي أمامي هو مقر الحكم طيلة الفترة من عام 1768م وحتى مطلع ثمانينات القرن العشرين. بناه الأمير ناجي بن عمر بن بريك مؤسس الامارة البريكية في الشحر التي حكمت من عام 1751م وحتى عام 1866م. استمر هذا القصر مقرا للدولة حتى بعد زوال الامارة البريكية على يد جيش الدولة الكثيرية، إذ تمكنت الدولة القعيطية الناشئة وقتئذ، من ازاحة الدولة الكثيرية من الشحر عام 1871م لتصبح هذه المدينة عاصمة للسلطنة القعيطية حتى مطلع الثلاثينات من القرن العشرين عندما انتقلت العاصمة إلى المكلا، العاصمة الحالية لحضرموت. وخلال الفترة الممتدة من عام 1871 وحتى عام 1967م (عام سقوط السلطنة القعيطية) وكذلك الفترة اللاحقة بعد قيام جمهورية اليمن الجنوبية (الديموقراطية) الشعبية إلى مطلع الثمانينات من القرن العشرين، كان هذا القصر دارا للحكومة ضم مختلف الإدارات والمحاكم والدواوين، إذ قام العهد القعيطي ببناء طابق إضافي جديد لهذا القصر، إضافة إلى الصالات والغرف الجديدة التي بنيت على الطراز المعماري الهندي . كانت تلك الغرف العلوية تعرف بالبناقل، ومن بينها اثنتان شهيرتان، كانت الأولى مقرا لمجلس السلطان والأخرى مقرا للمستشار البريطاني المقيم في ذلك الزمان.

كل ذلك الصرح أضحى اليوم خرابا يبابا وطللا باليا تسكنه الأشباح وتأوي اليه في الحيوانات الضالة، واستأثرت طيور البوم بما تبقى من سارية العلم القديم، وفي عتيم الليل وحتى اقتراب الفجر من كل ليلة ويوم، يسمع جيران القصر المنهار والصرح الذي هوى معزوفة قبيحة حزينة يتوالى فيها نعيب البوم خلف نعيق الغراب و«يا حصن مول البناقل ما أحلى ركونك .. اللي خربوا دار بصعر بايخربونك».

قبل أيام، وبعد أن نشرت صحيفتنا «الأيام» خبرا عن قرار أخير أصدره المجلس المحلي لمديرية الشحر بتسليم هذا القصر، أو بالأحرى ما تبقى منه إلى الهيئة العامة للآثار، وجدت نفسي منهمكا في حوار هاتفي مع العميد أحمد سعيد بن بريك في العاصمة صنعاء (وهو - أي العميد بن بريك - ينتمي إلى تلك الاسرة التي أنشأت الامارة البريكية في الشحر وبنت هذا القصر «الحصن» في القرن الثامن عشر) كان العميد أحمد يتحدث إليّ بأسى شديد عن الحال الذي وصل إليه هذا الأثر الدارس وعن المحاولات التي بذلها وآخرون في الفترات الماضية لانتشال هذا المعلم التاريخي من الوضعية الكئيبة والحال المزري والإهمال الفظيع الذي لحق به. إلا أنه طمأنني أخيرا إلى أن الجهود المبذولة منه شخصيا ومن الدكتور صالح علي باصرة الوزير والمؤرخ المعروف شارفت أن تثمر عما قريب مشروعاً إنشائياً يعتمد صيانة كاملة وإحياء لهذا المبنى الاثري والمعلم التاريخي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى