مصر في ذكرى «ثورة يوليو»:ملامح غضبة اجتماعية عنوانها «مياه نظيفة ورغيف عيش»

> القاهرة «الأيام» أميمة عبد اللطيف:

> قبيل وفاته بأشهر، جاهر عالم الاجتماع الفرنسي المرموق آلان روسيون بمخاوف حقيقية جراء تزايد حدة التوترات الاجتماعية التي تضغط بقوة على المصريين.

وذهب إلى حد تشبيه حالة الاحتقان السياسي والاجتماعي التي تمر بها مصر بتلك التي سبقت فترة ما قبل «ثورة يوليو» في العام 1952 . الفارق انه فيما تقف البلاد على أعتاب الذكرى الـ55 لـ«ثورة يوليو»، فإنه لا يبدو ان ثمة أفقاً لتغيير سياسي أو اجتماعي ما يطاول ما أحدثته «ثورة الضباط الأحرار» من تغييرات جذرية في النظام السياسي والاجتماعي في مصر.

وتبدو مصر بعد خمسة عقود من الثورة، في أشد الحاجة الى تغيير جذري يلامس في سقفه ما حققته «ثورة يوليو».

ثمة ملامح يمكن تلمسها لغضبة اجتماعية مقبلة، حذر منها روسيون، وتبدو جلية أكثر من أي وقت مضى، بحيث ان أخبار الإضرابات والاعتصامات العمالية بل وتلك العفوية لجماهير غاضبة - هي للصدفة قطاعات المهمشين الذين قامت الثورة لإنصافهم - تحتج من أجل توفير مياه شرب نظيفة أو رصف طريق أو حتى خبز رخيص، صارت تشغل حيزا متقدما في التغطية الصحافية للشؤون المحلية، وهي إن كانت تتصدر الصحف المستقلة والمعارضة الا انها تأتي متوارية في الصفحات الداخلية في الجرائد القومية، بل ان إحدى هذه الجرائد تغطيها ضمن «صفحة الحوادث».

وذكرت صحيفة «المصري اليوم» المستقلة أنه خلال العام 2006 سجل ما لا يقل عن 222 عملا احتجاجيا بين اعتصامات وإضرابات عن الطعام والعمل وتظاهرات عمالية.

وخلال النصف الأول من العام 2007 لم يكد يخلو يوم من حدوث اعتصامات عمالية، وقد سجلت إحدى منظمات المجتمع المدني انه في ابريل الماضي، كان هناك ما لا يقل عن 56 واقعة احتجاجية، فيما شهد الأسبوع الأول فقط من مايو ما لا يقل عن 15 عملا احتجاجيا هذه الموجة من الاعتصامات وصفت بأنها أقوى حركة احتجاج عمالية تشهدها مصر منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

وما يميزها عن الإضرابات العمالية التي اجتاحت البلاد خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، انه فيما اقتصرت الحركة الاحتجاجية العمالية على عمال القطاع العام في الماضي، فإن هذه الاعتصامات شملت عمال القطاع الخاص.

بل ان ما يميز اعتصامات العمال، هي النقلة النوعية التي حدثت للحركة العمالية، التي تحولت من التركيز على الرواتب وظروف العمل، الى طرح تساؤلات مهمة حول علاقتهم بالدولة.

وتتبدى ملامح الغضبة الاجتماعية الآتية أكثر فأكثر على اعتبار ان الحوادث الدالة عليها أكبر من أن تحصى.

ففي الأسبوع الماضي وحده، وقعت حوادث عديدة عكست احتقانا اجتماعيا شديدا عبر عن نفسه في صورة احتجاجات شعبية عفوية غير منظمة: في قرية بشبيش في المحلة الكبرى، تظاهر 4 آلاف مواطن أمام الوحدة المحلية احتجاجا على انقطاع مياه الشرب عنهم منذ عامين!! وكذا كان الأمر في قرية البرلس في كفر الشيخ في دلتا مصر حيث يعتصم هناك حوالي 250 فلاحا من قرية مجاورة لليوم الثالث احتجاجا على عدم وصول مياه الري الى أراضيهم.

في موازاة ذلك، تتواصل الاحتجاجات العمالية التي تنتشر كما العاصفة على أرض المحروسة.

ففي الإسماعيلية والسويس، يعتصم عمال إحدى شركات السفن لعدم تثبيتهم، في حين أنه في الإسكندرية، يعتصم عمال لعدم تنفيذ حكم قضائي لصالحهم.

ومن بين الهتافات التي رددوها «يا نظيف يا نظيف العمال موش لاقية رغيف».

أما في المناطق الأخرى، فتختلف الأسباب ويبقى الاحتجاج والاعتصام هو السبيل الوحيد لاسترداد الحقوق أو للتذكير بأن «للصبر حدودا».

وفي محافظة بني سويف، اعتصم أكثر من 600 مواطن أمام مجلس المدينة وعلى بعد 50 مترا فقط من مديرية الأمن، وذلك احتجاجا على أزمة رغيف الخبز، حيث لم تصرف حصة الطحين المخصصة لأحد المخابز الرئيسية والتي تخدم 3 آلاف نسمة فيما ترك الناس ليدبروا أمورهم عبر شراء رغيف الخبز من السوق السوداء.

كما شهدت السويس اعتصام عمال وإداريين في المدارس احتجاجا على استبعادهم من الكادر الوظيفي وهم سيواصلون وقفتهم الاحتجاجية.

اما الحادث الأخطر، فهو ما قام به أهالي المرج إحدى الضواحي القاهرية حين اعترضوا موكب ثلاثة وزراء وذلك من أجل تقديم شكاوى بعد تجاهلهم من قبل مسؤولي الحي.

هذه الفورة الاحتجاجية التي تجتاح قطاعات واسعة غير مسيسة من المجتمع المصري من أجل مطالب - تبدو في ظاهرها قاصرة على الحاجات الأساسية من مياه شرب نظيفة وخبز - هي تتحدى في جوهرها نظاما سياسيا مترهلا عجز عن ان يؤمن الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية.

وهي دفعت ببعض المحللين الى استخدام عبارات تحذيرية من قبيل «الانفجار مقبل وسيكون مدويا» لاسيما في ظل ارتفاع معدلات الفقر «المطلق» في البلاد من 16.7 في المئة في العام 2000 إلى 19.6 في المئة وفق آخر إحصاء للبنك الدولي.

وهؤلاء الفقراء اعتبرهم تقرير «الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية» الصادر عن «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» أوائل العام 2007 ، بمثابة «القوة المدمرة» في لحظات الاضطراب الاجتماعي لأنها ببساطة وحسب التقرير «تعاني حرمانا مروعا وتفتقد في الوقت ذاته الوحدة أو التنظيم السياسي الذي يمكن أن يضبط حركتها الاجتماعية وانفجاراتها عندما تحدث».

ولفت التقرير الى ضرورة التنبه لخطورة «الانفجارات العفوية المدمرة».

كان روسيون يرى ان التهديد الأكبر لاستمرارية النظام المصري لن يأتي من خلال جماعة الأخوان المسلمين أو عبر أحزاب المعارضة الورقية، أو ربما حتى عبر الحركات الاحتجاجية غير المتحزبة، وإنما الخطر الأكبر يتمحور حول التصورات الشعبية السائدة حيال نظام الحكم في مصر وهذه الهبات الشعبية غير المسيسة والعفوية والتي لا ترفع مطالب يعتبرها البعض نخبوية من قبيل الإصلاح السياسي أو الانتخابات الحرة أو وقف عجلة التوريث، وإنما فقط «مياه نظيفة ووظيفة مؤمنة ورغيف عيش».

وربما ستكون هي التي تقرر شكل النظام المقبل في البلاد.

وقد تكون هذه الهبات ليست سوى احتجاج شعبي مبطن عن سخط على الحكومة والمعارضة على حد سواء.

فالأخيرة عجزت عن تقديم بديل، والأخوان المسلمون أصابتهم مصيبة جعلت المرشد العام للجماعة محمد مهدي عاكف يقول ان المرحلة الحالية هي أسوأ من عهد عبد الناصر بالنسبة للأخوان، على ما كان عليه ذلك العهد من قمع وتشريد.

في واحدة من أكثر الروايات مبيعا الآن في القاهرة، «تاكسي»، يستعرض المؤلف خالد الخميسي عبر محادثات سجلها مع حوالي 58 سائق أجرة في القاهرة بعضا من هذه التصورات الشعبية.

وأهمية الرواية تكمن في كونها تكشف بشكل عفوي عن نظرة المصريين - خاصة الطبقات المهمشة منهم - الى الحكومة والنظام وتجيب بشكل غير مقصود عن سؤال لطالما قض مضاجع من يتابعون حركات الاحتجاج في مصر وهو: لماذا لا يتظاهر المصريون رغم كل الغبن الواقع بحقهم ولماذا لا يخرجون الى الشارع أفرادا وجماعات للاحتجاج ضد النظام؟

ويأتي السبب على لسان أحد السائقين «الحكومة زرعت فينا الرعب من الجوع وخلت كل واحد يقول ياللا نفسي».

ويضيف آخر «المشكلة فينا إحنا لأن 18 و19 يناير كانت بداية ثورة ماكملتش»، ولأن «فيه متين واحد ماسكين لافتات وحوليهم ييجي ألفين عسكري وظابط وعربيات أمن مركزي قافلة الدنيا».

أما الجزء الأخطر في الرواية، فذلك الذي يكشف عن تصورات المصريين للحكومة، لأن هذه التصورات من شأنها أن تعكس شكل وحجم الغضبة المقبلة.

فالحكومة بنظر المصريين «مرعوبة ركبها بتخبط في بعضها ونفخة وتقع».

وهناك من يرى «إحنا عايشين في كدبة ومصدقينها والحكومة دورها تراقب إن إحنا مصدقين الكذبة».

أما أحدهم فقد ختم شكوى عريضة بجملة «هما عايزين مننا إيه! عمالين ينهبوا ويسرقوا ويرتشوا وأخرتها إيه موش عارف! نهج (نهاجر) زي ماكل الناس بتهج..

واضح أن ديه خطة الحكومة الحقيقية أنها تخلينا نهج كلنا على بره..

بس لو هجينا كلنا الحكومة هتسرق مين..

تحس أنهم بيبذلوا مجهود لخراب بيتنا وعاوزين يحولونا لشحاتين أو مجرمين».

تبدو المسألة الاجتماعية الأكثر حضورا في المشهد السياسي المصري، وهي كما اعتبرها أحد الكتاب، تصب في صميم الأمن القومي للبلاد.

فالاحتجاجات والتظاهرات والاعتصامات التي تشمل قطاعات واسعة من المجتمع، هي دليل على أن أمن البلاد الاجتماعي مهدد لكون الدولة عاجزة عن الوفاء بالحد الأدنى من التزاماتها تجاه المواطنين.

«ماذا يفيد حماية أمن مصر الخارجي إذا تهدد أمنها الداخلي؟»، يتساءل مجدي مهنا في يومية «المصري اليوم».

ويضيف «الوضع الداخلي مهدد بالانفجار في أي لحظة إذا ما حاول عابث استغلال حركة الاحتجاج الواسعة في الانقلاب على نظام الحكم».

في ظل تراجع الأحزاب السياسية وحركات الاحتجاج السياسي أو بالأحرى فشلها في مقاومة الخروقات الأمنية الدؤوبة لها وعدم تمكنها من تأمين بديل سياسي جاد لحالة الفوضى، فالمتوقع ان تكون هذه الحالة عنوان المرحلة المقبلة.

وفي وقت لم يعد يرى النظام بديلا عن استخدام البطش عبر آلة أمنية تغلغلت في كل بنية المجتمع ووصلت الدولة في استخدامها الى الحدود القصوى (هدد الأمن المعتصمين في قري الدقهلية بأنه أمامهم خياران، إما فض الاعتصام أو الاعتقال)، يبقى من المهم بمكان معرفة هوية الجهة التي سيكون بإمكانها أن تستثمر حالة الغضب والاحتجاج التي تسود قطاعات واسعة من المجتمع للدفع بقضية تغيير النظام.

غير ان المشكلة التي تواجه الجميع هي عدم وجود قيادات تستطيع أن تؤدي دورا في رسم شكل وتوقيت وطبيعة هذا التغيير، بما يحصن البلاد من مصير قاتم.

عن السفير البنانية 21 يوليو 2007

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى