مناضلة حضرمية من زمن مهاجر ونسيان مؤلم في زمن حاضر!!

> «الأيام» فاروق ناصر علي:

> «خلاصةُ القضية تُوجزُ في عبارة لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح الجاهلية...» .. نزار قباني .. مقدمة لا مفر منها عندما سلمتني الأخت الكريمة (أم عمر) زوجة الراحل العزيز الشاعر والأديب والمربي القدير (المرحوم سالم محمد عبدالعزيز) نسخة من مذكرة فيها نبذة تاريخية عن والدتها الراحلة، وجدت نفسي داخل دوامة الحيرة.. لأن المذكرة كانت مكتوبة، مطبوعة ومنسقة وبأسلوب شامل ورائع.. صحيح أنها طويلة بالنسبة لصحيفة لكنها كانت كاملة.. حيرتي جاءت من خلال تساؤلي من أين أبدأ؟! وما الذي بإمكاني إضافته؟! وما الذي يمكنني اختصاره؟! لكن رغبتي الحقيقية جاءت من خلال مواقفي الواضحة لمن يعرفني، وهي رفضي الكامل بأن تُعامل(المرأة) كمخلوق ناقص ويعامل الرجل على أنه (كامل) حتى ولو تزين بكل وحل المستنقعات القذرة.

ونحن في وطن مفاهيمه عن الرجولة تبعث على الغثيان والازدراء، وكل من لا يحمل السلاح يعتبر (ناقص الرجولة) في زمن نرى فيه أن هذا الوطن المبتلى بالفساد والفاسدين يضم بين جنباته (نساء) أروع وأشجع وأنبل من الألوف من (أشباه الرجال) ولأن هذه (الإنسانة الحضرمية) جاءت في زمن بعيد والتاريخ يشهد بمآثرها النبيلة كان لي الدافع الآخر لأوجز لمن يريد أن يفهم.. أن التاريخ لمن يحفر الصخر لإخراج ماء المعرفة وعرف التضحيات بدون أن ينتظر المقابل.

في كل الدول المتحضرة ينظرون إلى مهنة التعليم، التربية نظرة كلها احترام وتقدير، لأنها شعوب تعرف مدى عظمة وأهمية هذه المهنة النبيلة ومدى أهميتها في خلق الأجيال ونهضة الأمم، فما بالكم عندما نرى (امرأة حضرمية) كرّست حياتها من أجل غرس العلم والمعرفة لـ(فتاة البادية)؟! نحن للأسف في (وطن) يرتد إلى الوراء بعناد وبغباء وعنجهية.. وطن يبين للدنيا كلها مدى حالة (الانفصام) الرهيب الذي يعيشه.. وطن مفهومه للرجولة مفهوم شرع الغاب.. ومفهومه لعظمة النساء من خلال الواقع المعاش، مجرد مفاهيم لا تخرج عن رجالة الكهوف هي فعلاً حالة انفصام ما بين الإعلام المدوي، والمؤتمرات والتصريحات الرسمية...إلخ وما بين الواقع المعاش، تلك هي القضية وهي المأساة في آن واحد.

من هي هذه الإنسانة الرائعة؟!

من مواليد عام 1909م في مدينة (المكلا) من أسرة (متدينة) تُدعى (كلثوم عبدالعزيز) اشتهرت باسم «كُرسم عزيزة» والدها عبدالعزيز عبدالمجيد الهندي الذي جاء به (السلطان غالب بن عوض القعيطي) من حيدر أباد، والدتها السيدة (مريم علي الجعيدي) من وادي عمد.. زوجها استاذ غلام معين الدين (المصور المشهور) الذي جاء من حيدر أباد حاملاً معه علم خاص (فن التصوير والزخارف الإسلامية) والذي أصبح (المصور الخاص للسلطان غالب والسلطان عمر والسلطان صالح) ومنه تعلمت زوجته التصوير وعلّم الكثيرين.

ما الذي قدمته كي يشهد التاريخ لها؟!

في كل زمان ومكان يشهد التاريخ والأجيال معاً لكل من قدم أو عمل عملاً جليلاً فيه مصلحة لكل الناس، يشهد التاريخ وكذا الأجيال لمن يناضل في سبيل خلق حياة كريمة للإنسان، وما ذكرته في هذه السطور من أجل تسهيل ما أريد توضيحه لأن النضال في سبيل حياة معيشية حرة كريمة لا ينحصر فقط بطلقات الرصاص لكنه يتوسع أيضاً من خلال توسيع مدارك العقول واكتساب العلم والمعرفة.. دعونا نتابع معاً هذه السطور المختصرة لحياة حافلة بالعطاء.

أولاً: تعتبر أول امرأة تقوم بالعمل الطوعي عام 1943 عبر الإشراف على تنظيم مدرسة (بنات البادية) وقد رشحها السلطان (صالح القعيطي) وأسند إليها هذه المهمة من خلال معرفة الناس بمدى قدرتها وجدارتها على تأدية المهام المسندة إليها.. وتحملت مهمة الإشراف على المدرسة الداخلية للبنات.. ونظمت وفق جداول تربوية سليمة لجعل (الفتاة البدوية الحضرمية) مهيأة لتلقي المزيد من العلم والمعرفة في هذا الصرح الذي أخرج العديد من المدرسات المؤهلات.. اللواتي عملن في المدارس الابتدائية بالمكلا.

ونظراً لضعف ميزانية الدولة القعيطية وعدم تمكنها من دفع كافة المرتبات والأجور.. قامت هذه (الإنسانة الرائعة) باختيار مجموعة من النساء ليشاركن في عملية الطبخ وطحن الذرة وغسل الملابس وترتيب المرقد، وذلك لاستمرار الدراسة مهما كانت الصعوبات، ومقابل ذلك كانت تعطي المتطوعات مساعدة من (البر، والذرة، والرز والسكر) نظراً لكون هذه المواد الغذائية شبه معدومة (كان ذلك بعد الحرب العالمية الثانية)، وعندما قررت إدارة المستشارية منحها مكافأة مالية لما قدمته من أعمال رفضت واعتبرت ما عملته مجرد عمل طوعي، لوجه الله.. وظل موقفها الإنساني هذا حديث الكل.. وأعطيت لها شهادة تقديرية من المستشار البريطاني (إنجرامس) هذه الشهادة موجودة في ملفها بإدارة معارف الدولة القعيطية.

ثانياً: هي السيدة الأولى التي قامت بتعليم الفتاة الحضرمية في بيتها وفي المدرسة الخياطة والنسالة والتطريز اليدوي والطبخ في مدينة المكلا.. تعلمت الخياطة وبذكاء نادر أتقنت خياطة الملابس للنساء والأطفال وذاع صيتها وانتشرت شهرتها.. وهي تعلمت الخياطة في البدء على يد السيد (عبدالله ناصر بخيت) الخياط المشهور وكذا السيد (رمضان الشاطري) خياط في الجيش النظامي.. وفي بيتها علمت الكثير من النساء فن الخياطة والتطريز.

غطت شهرتها عموم المكلا وضواحيها وذاع صيتها في تريم وسيئون.. وعندما رشحها الشيخ (سعيد القدال) مع ابنتها (بيبيا) كانتا أول من علّم الفتاة الحضرمية التفصيل والخياطة والنسألة و(التريكو) وكذا الطبخات المشهورة إلى يومنا هذا مثل (البرياني)...إلخ وذلك من خلال عملها في مدرسة البنات في المكلا كمدرّسة.

ثالثاً: كانت في كل المناسبات الدينية حاضرة وفعالة، فتحت منزلها لبعض نساء الجيران وتقوم بتحفيظهن بعضاً من السور القصيرة، وتحدثهن عن السيرة النبوية وعن زوجات الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) وتتلو عليهن بعض الأحاديث الشريفة.. في كل المناسبات الدينية كان لها قصب السبق في الأعمال الخيرية، وفي بعض الليالي كانت تقرأ على النساء قصص الأنبياء، توعّي، تعلّم، تنوّر وكانت نساء الجيران تتهافت للسماع وتزداد الحلقات وتتسع المعرفة.

قبل الخاتمة بخطوة

في الحقيقة لا أنكر أنني اختصرت كثير جداً من تاريخ حافل لسيدة نبيلة، لأن حيز المقال لن يتسع من ناحية، ولأنني عرفت من خلال (المذكرة) المتكاملة التي سُلمت لي أن أسرتها ستضع (كتابا كاملا) عن حياتها، ومآثرها.. ولأنني ككاتب اخترت من تلك المذكرة الرائعة ما رأيت، طبعاً من خلال (قناعتي الخاصة)، وأن القارئ سيحاط بتاريخ رائع كنا جميعاً أو قليلاً أو بعضاً منا يجهله.. وباختصار شديد أعيد بيان ما يلي حتى تترسخ بعض الحقائق في عقل القارئ:

أولاً: أول امرأة بادرت بالعمل الطوعي في عام 1943م في الاشراف على تنظيم مدرسة بنات البادية.

ثانياً: هي السيدة الأولى التي قامت بتعليم الفتاة الحضرمية في بيتها وفي المدرسة الخياطة والنسالة والتطريز اليدوي والطبخ في مدينة المكلا.

ثالثاً: أول سيدة فتحت استديو تصوير فوتوغرافي للنساء في منزلها الكائن في برّع السدة المطل على مسجد مشهور بالمكلا في العام 1945م.

الخاتمة

هذا مجرد مقال قصير اختصرت فيه الكثير جداً عن حياة إنسانة تطوعت بكل إخلاص وأفنت حياتها من أجل المرأة الحضرمية من خلال تعليمها وخدمتها في زمن ساد الجهل فيه وأغرق الرجال داخل ظلامه الدامس.. في بداية القرن العشرين، وظل العطاء حتى وافتها المنية.. توفيت رحمها الله في عام 1959م.. أنجبت السيدة (كلثوم) رحمها الله خمس بنات وولد واحد وهم: فاطمة وبيبيا ونبيهة، رحمهن الله، وشفيقة زوجة الأديب والشاعر والمربي القدير المرحوم سالم محمد عبدالعزيز وأنور الفنان التشكيلي المعروف، ومنى أطال الله عمرها.

عرفت من الاخت الكريمة أم عمر سالم عبدالعزيز، مدى رغبتها وإصرارها وعزمها على إخراج الكتاب الخاص بوالدتها الراحلة العظيمة، التي تأثرت كثيراً بها باعتبارها المثل الأعلى الواجب الاقتداء به.. وشفيقة هي مدرّسة درّست في المدارس الابتدائية والثانوية من عام -1962 2003م لأكثر من أربعة عقود.

أقول.. صحيح أن حضرموت العظيمة تذكرت الراحلة النبيلة (السيدة كلثوم) ومنحتها شهادتي تقدير وعرفان الأولى في يوم 2007/4/22م (بمناسبة يوم المعلم) من محافظ حضرموت ومن مدير مكتب التربية والتعليم.. والثانية بعيد الأم مقابل العطاء الذي قدمته، وهي من جمعية السعادة النسوية الاجتماعية الخيرية في تاريخ 2007/3/21م لهؤلاء الشكر والتقدير.. لكن يبقى السؤال المر مرارة العلقم يدور ويدور، يبحث عن جواب في زمن مبهور، مسحور.. يظل يلوح أمامي في خلاصة هذه الخاتمة:

امرأة في زمن غابر منذ عام 1943م تحملت عبء تعليم الفتاة ومضت من مسيرة إلى أخرى، تخلق الرائدات والمدرسات في صفوف الفتيات والنساء.. هل إطلاق اسمها على (معهد تربية نسوية) أمر صعب وخطير؟! على شارع من شوارع المكلا، سيئون، تريم أمر مخيف يدعو إلى الرهبة؟! في هذا الزمن وهذا الوطن الذي نرى فيه الأسماء تنزل علينا من كل حدب وصوب تغرق الميادين، الشوارع، الساحات، المكاتب والمدارس.. أم ما زلتم تعتقدون أن اسم المرأة (عورة وعيب)؟!

هل من حفر الصخر في الزمن الصعب ليخرج منه ماء المعرفة هو من يستحق التخليد أم من أطلق الرصاص وتمنطق بالخناجر والمتاجر هم وحدهم من يستحق ذلك؟! التكريم المنطقي والحضاري لمن حرر الناس من العبودية والفقر ومن الجهل والمرض.. هو مجرد تساؤل مُر، مَر في خاطري لا دخل لأسرتها الكريمة فيه، بل حتى في مذكرتهم الرائعة لم يدخل حرف أو سطر أو عبارة توحي بذلك تواضعاً منهم.

ويبقى القول.. هذا الخطأ من أخطاء الماضي وليس عيباً على الإطلاق أن يصحح اليوم.. العيب أن نكرس كل الأخطاء ونبقيها على أساس أنها من الماضي، اليوم عدم تصحيح هذه الاخطاء سيُبين أن السيدة الكريمة التي شهد التاريخ لها وكذا الأجيال التي واكبتها ما زال الوطن يرفض إنصافها.. مجرد أمل في وطن يندر فيه تحقق الآمال.. وتضيع فيه الأحلام والأماني.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى