غيضٌ من فيض..

> فضل النقيب:

> انتهى ذلك الزمن القديم، أو على حد قول أهلنا «الدويل» الذي كانت تبدو فيه الأعوام متشابهة كقوالب الطوب في واجهات المباني، ونحن نعيش الآن أزماناً سريعة التحول تنخل الناس نخلاً، وتجعل حظوظهم كحظ إمام العبد الشاعر المصري الرهيف الذي خرج من دنياه «يد قدام ويد وراء» ومع ذلك لم تفارقه الابتسامة، وهو القائل:

إن حظي كدقيقٍ

فوق شوكٍ نثروه

ثم قالوا لحفاةٍ

يوم ريح اجمعوه

في أيامنا قد يُستهلك من أحداث الزمن في عشية ليلة وضحاها ما كان يستهلك في سنوات تسير مكررة متشابهة تتساند على بعضها دون أن تتفكك، وذلك ما لاحظته وأنا أواصل القراءة في «محطات حياتي» للأستاذ حسين علي الحبيشي بهدف استجلاء صورة الشيخ عثمان ما بين عامي 1948-1928م، وقد كان الزمن آنذاك «دويلاً» حقاً ولكن ناسه كانوا يستطعمونه ويستعذبونه بعد أن يلفظوا مراره، ثم يضيئونه كأنه فص ألماس في ذاكرتهم الجمعية.

من مضحكات تلك الأيام وإن كان ضحكاً كالبكاء، ما يرويه الأستاذ عن الدجل والدجالين ومدعي «المسيدة» وكيف استخدم جار لهم من ذلك النفر البصق والضرب بالحذاء لإخراج شيطان مزعوم من جسد أخيه، وعرّج قليلاً على شتائم النساء لبعضهن من وراء الأبواب بسبب مشاحنات الأولاد في الحارات، وكيف تدفع إحداهن زوجها لمبارزة زوج الأخرى، فيخرج بعصاه، فيما توقظ الثانية زوجها فيخرج للمبارزة وهو لا يعرف أصل الموضوع فهو مازال يفرك عينيه من لذيذ المنام، وهذا يذكرني بقول الشاعر:

إن النساء شياطين خُلِقْنَ لكم

أعوذ بالله من شر الشياطين

وحتى لا أزعِّل بنات حواء، فإنني أذكرهن بما ردت به واحدة غيورة على بنات جنسها:

إن النساء رياحينَ خلقْنَ لكم

وكلكم يشتهي شمّ الرياحين

أما هذه فثابتة ثبوت الرؤية، والحق أن المرأة كالرجل، مزيج من هذا وذاك.

يقول الأستاذ:« ومن مساوئ العادات النابعة من ثقافة المجتمع المتخلف قيام الكثيرين من رفاق الصبا برفس الدواجن على الأرض، ورمي الطيور بالمزارق والصراخ وراء أي أجنبي مار والتجمع حول السياح، والصراخ للمناداة عن بعد والمناداة على البضائع بدق الأتناك والطبول، وبالأجراس لمشاهدة الأفلام «المرنججة».. وأذكر زميلاً يذهب إلى مكتبة المدرسة فينتزع الصور من الكتب العلمية وحين نعاتبه يرد: وأنتم مالكم، هو حق أبوكم».

«لولا مدرسة الإرسالية التي قدمت لنا التعليم الإعدادي الذي أدخلنا إلى الثانوية ثم الجامعة وكانت خيرية مجانية لكنا مبتوري التعليم نقوم بأعمال «الكتبة» أو كما نقل عني الأخ محمد مرشد ناجي «نبيع باجية وسمبوسة».

يا ترى كم بقي من ذلك الزمن «الدويل» الذي تلاحق الأستاذ الحبيشي نتفاً من أضواء مغيبه استلَّها من الذاكرة، وهدفي من هذه الإلماحات دفع القارئ اللبيب إلى السؤال عن هذا الكتاب والاستزادة من معلوماته الشيقة فما أشرت إليه ليس سوى غيض من فيض.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى